كان المختار يؤمن بالإنسان ، يؤمن بالقيم والمثل العليا. كثيرا ما ضحى بما يملك وما لا يملك لكي يسعد الآخرين ، ولم يكن قط ينتظر أن يسعده الآخرون ، بل كان دوما يعتبر سعادته في سعادة غيره . أحب المختار الكل وأحبه الكل ، حتى أولائك الذين أعطاهم بسخاء رغم حاجته.
في ذلك اليوم ، اليوم الذي بدا منذ الخيوط الأولى للفجر ، يوما أغبرا لا يأتيه الضياء من أمامه ولا من خلفه . حتى الديك الذي ألف صياحه الرخيم كل فجر ، بخل عليه اليوم بذلك. هل كان يعرف الديك ما يخبئه النهار ؟
سقط الكأس من يد المختار وتدحرج على الأرضية الإسمنتية في ذلك البيت الضيق المتاخم فوق السطوح بأنفة و كبرياء. كاد المختار يجن من الفرح يوم عثر عليه بعدما أعياه البحث عن مسكن لائق بثمن لائق .ولم تستو لديه هذه الثنائية قط . فإما أن يكون المكان لائقا وثمنه عائقا ، وإما أن يكون المكان مهترئا وثمنه مشجعا. ورغم أنه كان يتوجب على المختار صعود السلالم الملتوية طوال خمس طبقات ليصل إلى بيته الضيق، إلا أنه كان يعتبره فرصة من السماء ، منحه الله إياها ليتسنى له مشاطرة العالم الصغير حوله كل حركاته وسكناته .
لم يمض شهر واحد على إقامته في هذا الحي الشعبي المتواضع ذو العمارات القديمة المهترئة ، حتى أصبح المختار يعرف جل أهل الحي . بّا قاسم صاحب الدكان ، العمارتية بائعة الخبز ، الروداني طالب معاشو الحمال . الطاهرة الأرملة التي تتعب وتشقى طول النهار لتوفر لأيتامها قوتهم بشرف وكبرياء . وفيفي التي ترتدي أبهى الملابس وتتعطر بأبهى العطور الباهظة الثمن والتي تظل النهار بينهم وتختفي طوال الليل ، تلتهمها دروب المدينة الموحشة رغم كثرة الأضواء . كانت فاطمة التي تحب أن يناديها الناس فيفي طيبة القلب ، بريئة عذبة جميلة . وكان جمالها وحشيا تؤثثه العفوية والبراءة . غير أنها سقطت ذات مرة في يد ذئب بشري افترس لحمها الطازج ونهش عضمها الطري ثم قذف بها في أتون بحر مليئ بالحيتان المفترسة الضارية .
ومع الأيام، بل مع الليالي تحولت فاطمة إلى فيفي، وتحول الإنسان بداخلها إلى غول مخيف. ومع ذلك ، ظل المختار يحترمها ويلتمس لها الأعذار .
كان المختار يشعر أن كل أهل الحي أهله . ألم يبع في الماضي دراجته ليساعد الطاهرة الأرملة على شراء أضحية العيد.
الكل كان يعرف المختار ،الكل كان يعرف طيبوبته و أرحيته. لكن ذلك كله لم يشفع له في ذلك النهار الأغبر، حين دفع به أحدهم من أعلى العمارة التي تحضن مسكنه الضيق. كانت جثته الهامدة تسبح في بركة من الدماء، و سكان الحي حولها وهم يبحلقون . هل انتحر المختار ؟ هو الذي لم يقو من قبل على قتل ذبابة ، كيف يقتل نفسه ؟ هو الذي عَرَف بتواضعه وقناعته، كيف يُحول الحزن إلى فرح، والغضب إلى تسامح... هل قُتِل المختار؟ من قتله؟ولماذا؟
بدأت القصص والسيناريوهات تتناسل كما النار في الهشيم . بّا قاسم يقول:
- قاتله غريب ،ولا يمكن أن يكون قد تعرف على المختار من قبل ،لأن من يعرف المختار ، لا يمكن إلا أن يحبه . العمارتية تدعى أنهما كان اثنان غريبان عن المنطقة،قبل أسبوع مرّا من هنا بسيارتهما وسألاه دون غيره عن وجهتهما فدلهما بفرحه المعتاد.أما الرودانى فإنه يؤكد أن القاتل من أصحاب الحال . الطاهرة من جهتها تقول وهي تبكي :
-غصبوا شبابه ، لا بد أنهم أبناء عمه الذين ينافسهم على الإرث . لكن أغرب تعليق كان لفتاة الليل فيفي، فقد قالت وهي تنتحب: أنا من قتل المختار !!!
سَرَت في أجساد الجميع رعشة باردة، جعلتهم فاغرو الأْفواه أمام هول ما سمعوا.غير أنها أكملت:
- قتلته حين رفضت الزواج منه.
ترنح بّا قاسم وهو يقول:
- أنا من قتله ، قتلته عندما كنت أبخل عليه بكيس سكر حتى يؤدي ما عليه.
بل أنا من قتله!!! -
قالت العمارتية بائعة الخبز وهي تتمسح بجسمه البارد ثم أكملت:
- قتلته عندما بخلت عليه بخبزة تغلب جوعه.
أصر الروداني الحمال على أنه قاتله وكذلك ادعت الطاهرة .
وصلت الشرطة ومعها رجال الإسعاف . لفوا الجثة في قماش أبيض وحملوها إلى مستودع الأموات .
وبدأ البحث ...
الكل كان متهما . بّا قاسم ، العمارتية ، الروداني، الطاهرة و فيفي .لا أحد خرج من دائرة الاتهام .ورغم أن رجال الأمن أحسنوا ضيافتهم ، إلا أن كل واحد منهم أصر على أنه من قتل المختار . أطلقوا سراحهم جميعا لكن السؤال ظل معتقلا:
من قتل المختار؟