ذكريات الماضي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
المنتدى الجديد انتقل الى موقع اخر www.qa-g.com

 

 فن القصة القصيرة

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالأحد 15 مارس - 7:22

فن القصة القصيرة
للكاتب: محمد محيي الدين مينو


ظلّت القصّة القصيرة حتّى عهد قريب عالةً على النقد الأدبيّ، وكأنّها فنّ هجين، لا نظريّةَ له، تتعامل بوضوح مع معطياته ومنجزاته، فهي في منظورنا النقديّ التقليديّ حكايةFabula فحسب، تستوي فيها مختلف أنواع السرد القصصيّ الأخرى من رواية وقصّة وخرافة ونادرة ومقامة وأسطورة.. ولعلّ الطبيعة اللدِنة للقصّة القصيرة – وهي طبيعة لا تستقرّ على شكل فنّيّ واحد – قد أسهمت في هذه البلبلة النقديّة، وربّما أوقعتها في شَرَك الرواية وأهلها بطريقة أو بأخرى، وصار هؤلاء ينظرون إليها نظرة صَغَار، ولا سيّما الناقد المجريّ جورج لوكاتش Georg Lukacs الذي عدّها شكلاً من الأشكال الملحميّة الثانويّةMinor epic forms. وهذه النظرة إلى القصّة القصيرة لا تكاد تختلف عن النظرة القديمة إلى القصّ عموماً، إذ عدّه بعضهم – وهو ينظر إلى طبيعته الخلاّقة - بدعةً كاذبةً، وازدرى أهله، واتّهمهم بالغفلة والحمق تارةً وبالضلالة والكذب تارةً أخرى.
لا شكّ في أنّ البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة يتميّز من البناء الفنّيّ للرواية، فلكلٍّ منهما تقنيّته، ولكلٍّ منهما طبيعته ووظيفته، وإنّ اتّفقتا في العناصر، والتقتا في الأهداف. وقد تنبّه بعضهم – ولا سيّما الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بوEdgar Allan Poe ( 1809 – 1852 ) - إلى ضرورة تمييز هذه من تلك، فسعى إلى تقنين القصّة القصيرة كشكل فنّيّ يخالف الرواية في بنائه وشكله وهدفه، ورأى أنّ قِصرها لا يعني روايةً مبتورةً أو موجزةً، بل يعني نوعاً وشكلاً مختلفاً، ولكنّ نقدنا العربيّ الحديث ظلّ يعامل القصّة القصيرة معاملةً مهينةً، وكأنّها سرد Narration فحسب، وراح يحلّل بناءها السرديّ أفقيّاً وعموديّاً، ويقلّبه على صفيح ساخن، بل ينظر إلى عناصر البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة من خلال علاقة كلّ منها بالسرد وحده، فإذا كنّا يوماً تحت سطوة الرواية ونقّادها، فنحن اليوم أسرى السرد ونظرياته ونقّاده.
وهذه النظرة أحاديّة الجانب لا تختلف عن نظرة أخرى، عانت منها القصّة القصيرة رَدْحاً من الزمان، وهي النظرة إلى المضمون Content وحده على حساب الشكل Form، فراح أهل الواقعيّة Realism يعملون مباضعهم في اتّجاهاتها الواقعيّة، وطفق أهل الرومانسيّة Romanticism يبحثون في أوصالها عن أوصاف الطبيعة وملامح البطل الرومانسيّ، وجعل هؤلاء جميعاً يخلطون بين مصطلحاتها النقديّة وعناصرها الفنّيّة، فلا يميّزون أركان الشكل من اتّجاهات المضمون ومذاهبه. ولا شكّ في أنّ مثل هذه الاتّجاهات النقديّة المتعصّبة والمتشنّجة قد أثّرت في القصّة القصيرة تأثيراً فادحاً، فخرجت عن مسارها الطبيعيّ كواقعة Factإلى أفكار مؤدلجة مسبقة الصنع، سيطرت عليها الرومانسيّة فترةً طويلةً، وطغت عليها الواقعيّة فترةً أطول.

أوليّة القصّة في تراثنا العربيّ

أوّلاً - الجذور الأولى للقصّة

ثمّة سؤال عريض يثيره دارسو القصّة القصيرة بين وقت وآخر، وهو: " أ حقّاً عرف العرب القصّة ؟ "، ومن هؤلاء مَن وجد لها في تراثنا العربيّ جذوراً، هي تلك السير الشعبيّة والمقامات والنوادر والقصص الدينيّ والتاريخيّ.. ومنهم مَن أنكر علينا هذه الجذور الأصيلة، وردّ أصول القصّة العربيّة إلى الغرب، وادّعى أنّنا منذ أوائل القرن الماضي أخذنا نقتبسها من الغرب عن طريق الترجمة والتعريب تارةً أو المحاكاة والتقليد تارةً أخرى. وسواء أ كانت القصّة القصيرة وليدة مؤثّرات داخليّة أم خارجيّة لا يمكننا أن نغفل عن تراثنا القصصيّ العريق الذي لابدّ أن يكون قد أثّر بشكل أو بآخر في تجاربنا القصصيّة المتعدّدة والذي يشكّل مصدراً مهمّاً من مصادر ثقافتنا المعاصرة. و" الواقع – كما يقول صبري حافظ – أنّ العلاقة بين السرد العربيّ الحديث وأشكال السرد الغربيّ أو القصّة العربيّة القديمة ليست علاقة نسب فحسب، وإنّما هي تناصّ فعّال " .
ولا شكّ في أنّ هذا القصّ قد بدأ كالشعر روايةً لا كتابةً، لأنّ الكتابة لم تشع بين عرب الجاهليّة، ثمّ دُوّن بعد زمن طويل، مثله في ذلك مثل أيّ سرد عربيّ آخر. وأكثر ما كان يستهوي هؤلاء الأعراب من القصص أحاديث قصّاصهم عن وقائعهم وفرسانهم وملوكهم، تختلط بالخرافات والأساطير، وتتلوّن بأطراف من أيّام الأمم المجاورة وأخبارها. وربّما كان معاوية أوّل مَن سعى إلى تدوينها، فقد ذُكر أنّ عُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهميّ " وفد على معاوية بن أبي سفيان، فسأله عن الأخبار المتقدّمة وملوك العرب والعجم وسببِ تبلبل الألسنة وأمرِ افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما أمر، فأمر معاوية أن يُدوّن، وينسب إلى عبيد " .
ومنذ وقت مبكّر كنّا نرى القصّاص يجلسون في المسجد للعِظة، وأخذت تنشأ منهم طبقة من مثل أبَان بن عثمان بن عفّان وعُروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قَتَادة ، تُعنى بغزوات الرسول  وأخبار العرب الماضين وأساطيرهم، ويروي ابن الجوزيّ بسنده في كتابه ( القصّاص والمذكّرين ) أنّ الرسول  " سمع عبد الله بن رَواحة يقصّ "، فلمّا قصّ، وفرغ قال : " الحمد للّه الذي جعل من أمّتي مَن يذكّرهم بأيّام اللّه "، ويذكر في روايةٍ أنّ " أوّل مَن قصّ تميم بن أوس الداريّ، استأذن عمر بن الخطّاب  أن يقصّ على الناس، فأذن له "، ويقول في روايةٍ أخرى: " إنّ أوّل مَن قصّ عُبيد بن عُمير على عهد عمر  "، ثمّ ينقل عن ابن عمر قوله: " لم يُقصّ على عهد رسول اللّه  ولا أبي بكر ولا عمر، ولكنّه شيء أحدثوه بعد عثمان " .
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف فإنّ هذه الظاهرة اتّسعت في عصر بني أميّة اتّساعاً شديداً، " إذ استخدمتها الدولة كما استخدمها خصومها في الدعوة السياسيّة، وقد أمر معاوية أن يكون ذلك مرّتين في اليوم: مرّةً بعد صلاة الصبح ومرّةً بعد صلاة المغرب، وعيّن للقصّاص مرتّباتٍ خاصّةً " ، وكان " من تمام آلة القصّ أن يكون القاصّ أعمى، ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت " ، حتّى تصل مواعظه إلى سامعيه، سواء أكانوا في المسجد أم ساحة القتال.
ومن أوائل التأليف القصصيّ لدى العرب ما جمعه عُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهُميّ لمعاوية من أخبار اليمن وملوكها في كتاب ( الملوك وأخبار الماضين )، وما رواه أيضاً وَهْب بن مُنَبِّه ( 114 هـ ) في كتاب ( التيجان في ملوك حِمْير )، و( قصص الأنبياء ) و( قصص الأخيار )، وهي كتب تجمع بين الحوادث التاريخيّة والقصص الدينيّة من جهةٍ وبين الأسطورة والخرافة من جهةٍ أخرى. ويرى الدكتور إبراهيم بن عبد العزيز الجميح في بحثه ( القصّاص ودورهم السياسيّ في العصر الأمويّ ) أنّ لروايات وهب بن منبّه وكعب الأحبار بعد إسلامهما " الأثر الكبير في دخول كثير من القصص اليهوديّ إلى الدين الإسلاميّ، وهو ما أصبح يعرف بـ ( الإسرائيليّات )، أي: ما ينقل عن بني إسرائيل، ويندر صحّته " .
وفي العصر العبّاسيّ ارتقت الحياة، وشاعت الثقافة، وازدهرت الترجمة، وكان لا بدّ أن تدخل القصّة دائرةَ الترجمة والتأليف كغيرها من الفنون، ففي المجال الأوّل نجد أنّ أول هذه الثمار كتاب ( كَليلة ودِمْنة ) الذي ألّفه الفيلسوف الهنديّ بيدبا، وترجمه عبد اللّه بن المقفّع ( 142 هـ ) من اللغة البهلويّة – وهي الفارسيّة القديمة – إلى اللغة العربيّة، وزاد فيه بعض الفصول والقصص، ثمّ طبع سنة 1896 م، وترجم إلى الإسبانيّة سنة 1261 م، ولم يكد هذا الكتاب يعرف في أوربة، حتّى عدّه الناس المثل الأعلى لكتب المواعظ التي تلقى على ألسنة الحيوان والطير، أو ما يسمّى بالقصص الحيوانيّ Animal stories، كما كثرت محاولات نظمه شعراً ( أبَان اللاحقيّ، وبِشْر بن المعتمد، وابن الهَبَّاريّة.. ) ومحاكاة منطقه وتقليد منهجه الفنّيّ الذي يقوم على القصّ المتتابع أو المتلاحق Consecutive tale حيث تنبجس قصّة من قصّة ، وعلى منواله نسج كثيرون كتبهم، ومنهم: إخوان الصفا في رسالتهم ( محاكمة الإنسان والحيوان أمام مللك الجان )، وابن ظَفَر ( 565 هـ ) في كتابه ( سُلْوان المطاع في عدوان الطباع )، وسهل بن هارون ( 215 هـ ) في كتابه ( ثَعْلة وعفراء ) و( النمر والثعلب )، وابن عَرَبْشاه ( 901 هـ ) في كتابه ( فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء )، وأبو العلاء المعرّيّ ( 449 هـ ) في كتابه ( منار القائف )..
وفي مجال التأليف القصصيّ كتب الجاحظ ( 255 هـ ) موسوعته ( الحيوان ) التي حفظت لنا ما ارتبط بالحيوان من قصص وأساطير، وكتاب ( البخلاء ) الذي حوى صوراً واقعيّةً، التقطها من البصرة وخراسان، ولاسيّما عاصمتها مَرْو، وجعلها ساخرةً إلى أقصى حدّ، " فأمّا ما سألت من احتجاج الأشحّاء ونوادر أحاديث البخلاء، فسأوجدك ذلك في قصصهم مفرَّقاً وفي احتجاجاتهم مجملاً.. ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبيُّنُ حجّةٍ طريفة، أو تعرّفُ حياةٍ لطيفة، أو استفادةُ نادرةٍ عجيبة، وأنت في ضحك منه إذا شئت وفي لهو إذا مللت الجِدّ " . وقد وفّر الجاحظ لقصصه بيئةً واقعيّةً، وصوّر شخصيّاتها تصويراً حسّيّاً ونفسيّاً، فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنّة ونزواتهم النفسيّة، وكشف أسرارهم وخفايا نفوسهم، وجعلته شخصيّته المرحة المطبوعة على السخرية والتهكّم يمزج في تصويره الجِدّ بالعبث والنقد بالفكاهة، فأظهر مقدرةً فائقةً على التكلّم بلسان كلّ شخصيّة، ولاسيّما لسان العامّة والحمقى. ومن قصصه ما يطول، حتّى يبلغ مبلغ القصّة القصيرة كقصّته مع ( محمّد بن أبي المُؤَمَّل ) ، ومنها ما يقصر، حتّى يصبح طرفةً أو نادرةً كقصّة ( ديكة مَرْو ) التي رواها عن ثُمَامة بن أشرس النُّميريّ، وهي أنّ الديك في كلّ مكان " يأخذ الحبّة بمنقاره، ثمّ يلفِظها قُدّام الدجاجة إلاّ ديكة مرو، فإنّي رأيتها تسلُب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ " . وممّا ينسب إلى الجاحظ من كتب القصص والحكايات كتاب ( المحاسن والأضداد )، وهو يحوي أخبار الجاهليين وأقاصيصهم، ويتضمن أقاصيص منقولةً عن الهند واليونان وفارس.
وبعد ابن المقفّع والجاحظ صار المؤلّفون يُعنون بجمع القصّة وتأليفها سواء أ كانت واقعيّةً أم خياليّةً، وكان من أشهر مؤلّفاتهم الخالصة لهذا الفنّ وأقدمها: كتاب ( عيون الأخبار ) لابن قتيبة ( 276 هـ )، وكتاب ( المستجاد من فعلات الأجواد )، و( نِشْوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ) و( الفرج بعد الشدّة ) لأبي عليّ المحسِّن التَّنوخي ( 384 هـ )، وهي تحوي قصص المجتمع البغداديّ وأيّامه، وتجمع بين القصّة والنادرة، وكتاب ( المكافأة وحُسن العُقبى ) لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية ( 340 هـ )، وهو يحوي واحدةً وسبعين قصّةً، تشيع في أرجائها مختلف البيئات العربيّة وغير العربيّة. وبعض هذه الكتب مبوّب تبويباً موضوعيّاً، يجمع في كلّ باب جملةً من القصص تحت موضوع واحد، فابن الداية قسّم كتابه إلى ثلاثة أبواب، هي: ( المكافأة على الحُسن )، و( المكافأة على القبيح )، و( حُسن العُقبى ). ولعلّ هذا يدلّ على أنّ العرب لم يعرفوا القصّة فحسب، وإنّماعرفوا أيضاً مجاميعها القصصيّة.
وفي هذا العصر شاعت قصص المتصوّفة والفلاسفة ، وهي قصص تصوّر جهاد المتصوّفة العنيف في قمع شهوات النفس ولذّاتها، وتتّصل بها الحكايات التي أخذت تُؤثر عن كراماتهم المدهشة وخوارقهم الخياليّة، وتعرِض نظرة الفلاسفة إلى الوجود والحياة، فمن الأولى ما كتبه الحكيم التِّرْمذي ( 320 هـ ) في ( ختـم الولاية )، والجعفر الخلديّ ( 348 هـ ) في ( حكايات المشايخ )، وابن السرّاج البغداديّ ( 500 هـ ) في ( مصارع العشّاق ).. ومن الثانية ما كتبه ابن سينا في قصّة ( حيّ بن يقظان ) وقصّة ( سَلامان وأُبْسال ) ورسالة ( الطير )، وهي قصص فلسفيّة رمزيّة، سينسِج على منوالها بعد حين يحيى السُّهْرَوَرْديّ ( 587 هـ ) قصّته ( الغريبة الغربيّة )، ويكتب ابن طُفيل ( 581 هـ ) قصّته ( حيّ بن يقظان ).
وبعد زمن سيعرف العرب القصّة الطويلة أو الرواية على يد أبي العلاء المعرّيّ ( 449 هـ ) في كتابه ( رسالة الغفران )، وهي رحلة إلى النعيم والجحيم، جعل المعرّيّ شيخه الحلبيّ عليّ بن منصور المعروف بابن القارح ( 424 هـ ) يقوم بها، ويلقى هناك شعراء من أهل الجاهليّة والإسلام ، يعرِض أحوالهم وأشعارهم، ويسألهم عمّا يعترضه فيها من المسائل الأدبيّة واللغويّة والعقليّة بأسلوب روائيّ، يقوم على السرد المرسل والحوار المباشر معاً وعلى غرارها كتب الشاعر الإيطاليّ دانتي Dante ( 1321 م ) ملحمته الشهيرة ( الكوميديا الإلهيّة ).
وبعده يكتب ابن حَزْم الأندلسيّ ( 456 هـ ) كتابه ( طوق الحمامة )، وهو مجموعة من مقالات الحب العذريّ وأقاصيصه، أخذها الكاتب من تجربته الشخصيّة وواقعه المحليّ دون مُواربة ولا خجل، ويكتب ابن شُهَيد الأندلسيّ ( 426 هـ ) رسالته ( التوابع والزوابع )، أي: رسالة ( الجنّ والشياطين )، وهي رحلة خياليّة Fantastic voyage إلى وادي الجنّ، التقى فيه بشياطين الشعراء والكتّاب، يعرِض عليهم شعره ونثره، فيستحسنون ما يعرِض، ويُجيزونه، فهي تدور على ما شاع على ألسنة العرب في العصر الجاهليّ الوثنيّ من تصوّر شياطين للشعراء، يلهمونهم الأشعار، ثمّ يكتب ابن شُهَيد أيضاً قصّته ( حانوت عطّار )، وهي رسالة في وصف ثعلب وبرغوث وبعوضة، ويكتب ابن طُفيل الأندلسيّ ( 581 هـ ) قصّته الطويلة ( حيّ بن يقظان ) على غِرار قصّة ابن سينا نفسها، وهي قصّة فلسفيّة، بطلها حيّ الذي تربّيه غزالة في جزيرة منعزلة من جزر الهند وحيداً، يتوصّل إلى معرفة الله – جلّ جلاله - على طريقته من الوَجْد والإشراق الروحيّ، ثمّ يلتقي برجل من جزيرة مجاورة، يعلّمه الكلام، ويكتشف أنّ ما وصل إليه حيّ من عقيدة هو دينه السماويّ نفسه، ثمّ يسعيان معاً إلى هداية الناس، فلا يفلحان، ويعودان إلى الجزيرة خائبين. وكان الإنكليزيّ إدوارد بوكوك Edward Poucock أوّل من ترجمها إلى اللاتينيّة في أكسفورد عام 1671 م، وعلى ضوئها كتب دانييل ديفو ( 1731 ) Daniel Defoe قصّته الشهيرة ( روبنسن كروزو ) 1719، وكتب جراثيان Gratin اليسوعي قصّته ( الكريتيكون ) التي نشرت في منتصف القرن السابع عشر.
وخلال حركة التأليف هذه كانت القصص والسير الشعبيّة Folk tales قد بلغت أوج انتشارها ونضوجها الفنّيّ، وأخذ النسّاخ يدوّنون ما يسمعون منها، ويعملون على تنقيحها وتهذيبها، ولكنّها ظلّت أقرب إلى لغة العامّة وأنماط حياتهم، فعافها الخاصّة، وعدّوها من الأدب المرذول، وجعلها ابن النديم ( 385 هـ ) في كتابه ( الفِهرست ) من باب الخرافة والمسامرة . وممّن أخذ يدوّن هذه الخرافات والمسامرات أبو عبد اللّه محمّد بن عَبْدوس الجَهْشَيَاريّ ( 331 هـ ) الذي " ابتدأ بتأليف كتاب، اختار فيه ألف سَمَر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كلّ جزء قام بذاته، لا يَعْلق بغيره، وأحضر المسامرين، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنّفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه "
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالأحد 15 مارس - 7:31

ثانياً - أشكال القصّ في التراث العربيّ الإسلاميّ:

عرف تراثنا العربيّ والإسلاميّ أشكالاً من القصّ متنوّعةً : ( أ ) منها ما كانت غايته العبرة والموعظة كقصص الأمثال، ( ب ) ومنها ما كان يهدُف إلى المتعة والتسلية كالخرافة والأسطورة، ( ج ) ومنها ما كانت له غاية دينية محضة كقصص القرآن وقصص الأنبياء. ولا شكّ في أن القصّة القصيرة الجديدة قد استفادت من هذه الأشكال المتنوّعة، ورأت فيها مصدراً ثرّاً للتجديد والتجريب، وهو ما يؤكّد الصلة الوثيقة لتجاربنا القصصيّة المعاصرة بجذورها الأولى.
- قصص الأمثال Proverbs
المثل: قول موجز سائر مرسل بذاته أو مقتطع من كلام أو شعر، ينطوي على حكمة وعبرة، ويُنقل ممّن ورد فيه إلى مشابهه بلا تغيير، شبّهوه بالمثال الذي يُعمل عليه غيره، فالأصل في المثل: حُسن التشبيه، وجودة الكناية، وإصابة المعنى، وإيجاز اللفظ.. والمثل – سواء أكان مدحاً أم قَدْحاً – معيارٌ " لقياس أفكار الناس وأخلاقهم وعاداتهم وأنشطتهم.. معيارٌ صادق، ليس في حاجة إلى الكذب والخداع حتّى في حالة تناقض الأمثال مع بعضها بعضاً، فهو تناقض النفس البشريّة ذاتها بكلّ أفراحها وأتراحها، بكلّ آمالها وآلامها، بكلّ مخاوفها وإحباطاتها " .
ووراء كلّ مثل من أمثالنا القديمة قصّةٌ أو أسطورة أو خرافة، لا غايةَ منها إلاّ العبرة والموعظة، ففي المثل القائل: " طال الأبد على لُبَد " نقرأ قصّةً من قصص لقمان الحكيم ، وفي المثل القائل: " لأمرٍ ما جَدَع قَصير أنفه " نقرأ قصّة ( الزَّبَّاء ) ملكة تدمر ، وفي المثل القائل: " جزاء سَنِمّار " نقرأ قصّة ( النعمان بن امرىء القيس الَّلخْمِيّ والبنّاء الرومي سَنِمّار ) .. ومن أقدم من ألّف فيها صُحَار بن العبّاس العَبْديّ الخارجيّ أحد النسّابين والخطباء في أيّام معاوية بن أبي سفيان ( 41 – 60 هـ ) وعُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهُميّ معاصره أيضاً ، ومن أشهر كتب الأمثال وأقدمها: ( أمثال العرب ) للمفضّل بن محمّد الضَّبّيّ ( 178 هـ )، وكتاب ( الأمثال ) لأبي عِكرمة الضَّبّيّ ( 250 هـ )، و( جمهرة الأمثال ) لأبي هلال العسكريّ ( 395 هـ )، و( فصل المقال في شرح كتاب الأمثال لابن سلاّم ) لأبي عبيد البكريّ ( 487 هـ )، وهو شرح لكتاب ( الأمثال ) لابن سلاّم الجُمَحيّ ( 231 هـ )، و( مجمع الأمثال ) لأبي الفضل أحمد بن محمّد الميدانيّ ( 518 هـ )، و( تمثال الأمثال ) لأبي المحاسن محمّد بن عليّ العَبْدَريّ الشَّيْبيّ ( 837 هـ ).
وهذه الكتب تعجّ بالحكايات، ومن أشهرها ما رواه الميدانيّ في قصّة المثل المعروف " في بيته يُؤتى الحَكَمُ "، فقال: " هذا ممّا زعمت العرب عن ألسن البهائم، قالوا: إنّ الأرنب التقطت ثمرةً، فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضَّبّ، فقالت الأرنب: يا أبا الحِسْل، فقال: سميعاً دعوتِ، قالت: أتيناك، لنختصم إليك، قال: عادلاً حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يُؤتى الحَكَم، قالت: إنّي وجدت ثمرةً، قال: حُلوةً فكُليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقّك أخذت، قالت: فلطمني، قال: حرٌّ انتصر، قالت: فاقضِ بيننا، قال: قد قضيتُ، فذهبتْ أقواله كلّها أمثالاً " . وهذا الأسلوب الرمزيّ من القصّ على ألسن الحيوان عرفت به من قبل قصص ( كَليلة ودِمْنة ) وبعض حكايات ( ألف ليلة وليلة )، وهو لا يخلو من عناصر القصّ الرئيسة، ولا سيّما الحدث والحوار، ولا يخلو أيضاً من متعة وتشويق وحكمة، هي في النهاية غاية القصّة القصيرة ومَقصَدها.
- المقامات Rhythmic prose:
المقامة – وهي في الأصل " المجلس والجماعة من الناس " - قصّة مسجوعة الأسلوب تعليميّة الغاية، لأنّها من جهةٍ درس في مختلف فنون البلاغة وأنواعها وفي شوارد اللغة ونوادرها، ولأنّها من جهةٍ أخرى عبرة وموعظة كأيّ شكل حكائيّ آخر، بطلها متخيّل، يروي أخباره راوية متخيّل أيضاً، وأحداثها تدور حول الكُدْية والخداع والاحتيال، لا حبكة تربط بينها، ولا شخصيّة تؤثّر فيها.
ويردّ الباحثون نشأة المقامة في شكلها الفنّيّ على يد أبي الفضل أحمد بن الحسين الملقّب ببديع الزمان الهمذانيّ ( 398 هـ ) إلى ثلاثة من المصادر الرئيسة، وهي:
1 – ( مقامات الزهّاد عند الخلفاء والملوك ) التي رواها ابن قتيبة ( 276 هـ ) في كتابه ( عيون الأخبار ) ، ومنها: مقام ( رجل من الزهّاد بين يدي المنصور )، ومقام ( صالح بن عبد الجليل بين يدي المهديّ )، ومقام ( أعرابيّ بين يدي سليمان ).. وهي مقالات زهّاد بين يدي ذوي السلطان من خلفاء وملوك، تسودها العبرة والنصيحة، ويشيع فيها القصّ بأسلوب مرسل، لا أثر فيه لصنعة ولا سجع.
2 - ( أحاديث ابن دريد ) التي رواها أبو علي القاليّ ( 356 هـ ) في كتابه ( الأمالي ) ، ومنها: حديث ( البنين السبعة الذين هوت عليهم الصخرة )، وحديث ( النسوة اللاتي أشرن على بنت الملك بالتزوّج )، وحديث ( أوس بن حارثة ونصيحته لابنه مالك ).. وهي حكايات عربيّة قديمة، غلب عليها الخبر التاريخيّ وشرح الغريب من الشعر واللغة..
3 – حكاية ( أبي القاسم البغداديّ ) التي كتبها أبو المُطَهَّر محمّد بن أحمد الأَزْديّ ( أواسط القرن الرابع الهجريّ )، وهي عرض لفكاهات أهل بغداد وأصفهان ونوادرهم ووصف لمجالس اللهو والمجون ومواقف الاحتيال والنفاق، حقّقها وترجمها إلى الألمانيّة ميتس Mez عام 1920.
والبديع عارض هذه الحكايات التي تزخر بالوعظ والصنعة، وأفاد في تدوين نوادره وألغازه من أحاديث أستاذه أبي الحسين أحمد بن فارس ( 395 هـ )، وحفظ عنه علوم العربيّة وآدابها ومسائل النحو ودروسه، وترك لنا من المقامات واحدةً وخمسين مقامةً، بطلها أبو الفتح الإسكندريّ الرجل البليغ الفصيح الذي سعى في الاحتيال على دهره القاسي بمختلف الوسائل، وراويتها هو عيسى بن هشام، وسار القاسم بن عليّ الحريريّ ( 516 هـ ) على هديه في خمسين مقامةً، بطلها أبو زيد السَّرُوجيّ المتسوّل الذي اتخذ من فصاحة لسانه وسيلةً للاحتيال، وراويتها هو الحارث بن هَمّام، ثمّ قلّدهما كثيرون، منهم: ابن الأَشْتَرْكُونيّ الأندلسيّ ( 538 هـ )، ومحمّد بن يوسف السَّرَقُسْطيّ ( 538 هـ )، وجار اللّه الزَّمَخْشَريّ ( 538 هـ )، وأحمد بن الأعظم الرازيّ ( 630 هـ )، والسُّيُوطيّ ( 911 هـ )، والشّهاب الخَفَاجيّ ( 1069 هـ ).
وفي العصر الحديث كتب محمّد المويلحيّ ( 1930 ) كتابه ( حديث عيسى بن هشام 1907 ) على نمط مقامات الهمذانيّ والحريريّ، لكنّ التحليل النفسيّ فيها أظهر والحوادث أكثر تسلسلاً وتنوّعاً.. ومن كتب المقامات: ( مجمع البحرين 1856 ) لناصيف اليازجيّ ( 1871 )، و( مقامات الأوهام في الآمال والأحكام ) لأمين إبراهيم شُمَيِّل ( 1897 )، و( سنوح الأفكار ) لعلي مبارك ( 1893 ).. وهذه المقامات هي حلقة فاصلة بين القصّ القديم والقصّ الجديد، بل هي الأساس الأوّل لنشوء القصّة العربيّة الحديثة، ظلّ مهيمناً حتّى وقت طويل على بوادرها الأولى ومؤثّراً فيما عُرّب وترجم من القصص الغربيّ، فعبد اللّه فكري ( 1889 ) على سبيل المثال كان يخلع على قصصه لبوس المقامة، ومثله فعل أحمد فارس الشِّدْياق ( 1887 ) في كتابه ( الساق على الساق فيما هو الفارياق 1855 ).
- الأسطورة Myth:
الأسطورة هي حكاية خياليّة، ترادف الخرافة غالباً، لأبطالها طاقةٌ فوق طاقة البشر، وهم إمّا أخيار أو أشرار، وإمّا من الطبقة العليا كالملوك وأهل السلطان أو الطبقة الدنيا من عامّة الناس، لا يتقدّم بهم العمر، بل ربّما يشيخون فجأةً، ولأحداثها مظاهر تاريخيّة أو طبيعيّة، يخترعها الخيال الشعبيّ للتسلية أو الموعظة ، ويختلط فيها البشريّ بغيره من الجنّ والحيوان والجماد، ومع مرور الزمن تخضع للتشذيب والتهذيب وللتحوير والتبديل، حتّى تصل إلى شكلها الأسمى.
و" قد دلّت الاكتشافات الحديثة للنصوص المبكّرة على أنّ الإغريق مدينون بشهرتهم في مجال الأسطورة لكتّاب الشرق، ولا سيّما الذين أرسوا تقاليدها في بابل وآشور وأساطير بيدبا عند الهنود وأساطير لقمان عند العرب، فقد تركت بصماتها واضحةً على أساطير إيسوب Esop الإغريقيّ الذي عاش في آسيا، وتأثّر بالأساطير السائدة هناك " .
ولا شكّ في أنّ عرب ما قبل الإسلام قد عرفوا هذا النوع من القصّ على نطاق واسع، حتّى أطلقوا على كلّ عمل خارق للمألوف والواقع اسم أسطورة، ولذلك عندما بهرتهم رسالة نبيّنا محمّد ، ورأوا في أضعافها ما رأوا من قصص وآيات، قالوا من فورهم:  أسطير الأوّلين التي تكرّرت على لسانهم في القرآن الكريم غير مرّة . ومن أساطيرهم ( إساف ونائلة )، و( طَسْم وجَديث )، و( ربيبة الجان ).. وممّا لا شكّ فيه أنّ عرب الجاهليّة قصّوا كثيراً عن الجنّ والعفاريت والشياطين، و" زعموا أنّها تتحوّل في أيّ صورة شاءت إلاّ الغول، فإنّها دائماً تبدو في صورة امرأة عدا رجليها، فلا بدّ أن تكونا رجلي حمار " .

- القصص القرآنيّ Quranic tales:

جعل القرآن الكريم القصّة إحدى وسائله في تحقيق غاياته المقدّسة من إثبات الوحي وتأكيد الرسالة وتأصيل الدعوة المحمّديّة وإظهار القدرة الإلهيّة وعواقب الخير والشرّ.. قال تعالى: نحن نقصّ عليك أحسنَ القَصص بما أوحينا إليكَ هذا القرءانَ وإن كنتَ من قبله لمن الغفلين  ، وقال :  وكلاً نقصّ عليكَ من أنباء الرُّسُل ما نُثبّتُ به فؤادك وجاءك في هذه الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين  . فهي لا تخضع دائماً لمعايير فنّيّة من تحديد للزمان والمكان أو تسمية للشخصيّات أو ترتيب للأحداث، لأنّها تستهدف الإقناع والاعتبار، وتنشد التأثير والتذكير.. وقد لاحظ سيّد قطب " أنّ التعبير القرآني يؤلّف بين الغرض الدينيّ والغرض الفنّيّ فيما يعرضه من الصور والمشاهد، بل لا حظنا أنّه يجعل الجمال الفنّيّ أداةً مقصودةً للتأثير الوجدانيّ، فيخاطب حاسّة الوجدان الدينيّة بلغة الجمال الفنّيّة " .
ورأى قطب أنّ القصص القرآني في خضوعه للغرض الدينيّ يترك آثاراً واضحةً في طريق عرضه ومادّته، وهي:

أ – " ترد القصّة الواحدة في معظم الحالات مكرّرةً في مواضع شتّى، ولكنّ هذا التكرار لا يتناول القصّة كلّها غالباً، إنّما هو تكرار لبعض حلقاتها، ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها، أمّا جسم القصّة كلّه، فلا يُكرّر إلاّ نادراً ولمناسبات خاصّة في السياق. هناك ما يشبه أن يكون نظاماً مقرّراً في عرض الحلقات المكرّرة من القصّة الواحدة، يتّضح حين تُقرأ بحسب ترتيب نزولها، فمعظم القصص يبدأ بإشارة مقتضبة، ثمّ تطول هذه الإشارات شيئاً فشيئاً، ثمّ تُعرض حلقات كبيرة، تكوّن في مجموعها جسم القصّة، وقد تستمرّ الإشارات المقتضبة فيما بين عرض هذه الحلقات الكبيرة عند المناسبات حتّى إذا استوفت القصّة حلقاتها،عادت هذه الإشارات هي كلّ ما يُعرض منها " . ومن أكثر القصص تكراراً في القرآن الكريم قصّة ( موسى  ) التي وردت في أكثر من ثلاثين موضعاً.

ب – " تُعرض بالقدر الذي يكفي لأداء هذا الغرض ومن الحلقة التي تتّفق معه، فمرّةً تعرض القصّة من أوّلها، ومرّةً من وسطها، ومرّةً من آخرها، وتارةً تعرض كاملةً، وتارةً يُكتفى ببعض حلقاتها، وتارةً تتوسّط بين هذا وذاك حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك.. ذلك أنّ الهدف التاريخيّ لم يكن من أهداف القرآن الأساسيّة " .

ج – " تُمزج التوجيهات الدينيّة بسياق القصّة قبلها وبعدها وفي ثناياها كذلك " ، ومثال التوجيهات في ثناياها قوله تعالى:  أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عُروشها قال أنّى يُحي هذه اللّهُ بعد موتها فأماته اللّهُ مائة عام ثمّ بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم قال بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءايةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثمّ نـكسوها لحماً فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير  . وهكذا تعترض سياق القصّة عبارة، هي:  ولنجعلك ءايةً للناس ، وتعترض في نهايتها عبارة أخرى، هي:  قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير  .

- القصص التاريخيّ Historical tales:
هو قصص واقعيّ، يتمثّل في أيّام العرب ووقائعهم، بعضه قديم جدّاً، ابتعد قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة، ومنه: قصّة ( زنوبيا ) ملكة تدمر، وبعضه جاهليّ أو إسلاميّ، تعِجّ به كتب التاريخ والأدب، ومنه قصّة ( عنترة العبسيّ ) وقصّة ( مجنون ليلى ) وقصّة ( المُرَقّش الأكبر وصاحبته أسماء ).. وعلى نحو ما كانوا يقصّون عن ملوكهم وأبطالهم كانوا يقصّون عن ملوك الأمم الأخرى وشجعانهم، فقد ذُكر أنّ النضر بن الحارث بن عَلْقَمة قَدِم الحيرة، وتعلّم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رُسْتم وأسفنديار، فـ " كان إذا جلس رسول اللّه مجلساً، فدعا فيه إلى اللّه تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذّر قريشاً ما أصاب الأمم الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رُسْتم الصِّنْديد وعن أسفنديار وملوك فارس " .

- الطرائف أو النوادر Anecdotes:
هي شكل حكائيّ بسيط، لا يخلو من سرد خاطف وخيال جامح وحدث طريف وحوار لمّاح، ويزدهر هذا الفنّ بوجود شخصيّات طريفة كشخصيّة أبي نُواس وجحا وأشعب وأبي ضَمْضَم وسيفويه.. أو شخصيّات مثيرة للجدل كشخصيّة الخليفة هارون الرشيد وشخصيّة القائد التركيّ قراقوش نائب صلاح الدين الأيّوبيّ في مصر.. وثمّة تصانيف معروفة في هذا الباب ، من أهمّها : كتاب ( المكافأة وحُسن العُقبى ) لابن الداية ( 340 هـ )، و( أخبار سيبويه المصريّ ) لابن زُوْلاق الحسن بن إبراهيم ( 387 هـ )، و( الفاشوش في حكم قراقوش ) لابن مَمَّاتيّ أسعد بن مُهَذَّب ( 606 هـ )، و( نوادر جحا ) لمؤلّف مجهول، و( البخلاء ) للجاحظ ( 255 هـ )، و( أخبار الحمقى والمغفّلين ) لابن الجوزي ( 597 هـ )، و( المستطرف من كلّ فنّ مستظرف ) للأَبْشِيهيّ (852 هـ )، و( فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء ) لابن عَرَبْشاه ( 901 هـ ).. ومن التصانيف الحديثة: ( قصص العرب ) لمحمّد أحمد جاد المولى ورفيقيه، و( ألف حكاية وحكاية من الأدب العربيّ القديم ) لحسين أحمد أمين، و( جمهرة قصص العرب ) للدكتور قصي الحسين..
وفي شروط رواية النادرة قال الجاحظ: " متى سمعت بنادرة من كلام الأعراب، فإيّاك أن تحكيها إلاّ مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنّك - إن غيّرتها بأن تلحن في إعرابها، وأخرجتها مخارج كلام المولّدين والبلديّين - خرجت من تلك الحكاية، وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام ومُلْحة من مُلَح الحُشْوة والطَّغَام، فإيّاك أن تستعمل فيها الإغراب، أو تتخيّر لها لفظاً حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سَرِيّاً، فإنّ ذلك يفسد الإمتاع بها، ويخرجها من صورتها ومن الذي أُريدت له، ويُذهب استطابتَهم إيّاها واستملاحَهم لها " .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالأحد 15 مارس - 7:35

- القصص والسير الشعبيّة Folk tale:
يأخذ هذا الفنّ أشخاصه وأحداثه من التاريخ أو المجتمع أو الأدب.. ولكنّه يتجاوز ملامحها الشخصيّة وحدودها الزمانيّة والمكانيّة، لأنّ حكاياته ليست إلاّ نتاج مراحل زمنيّة متعدّدة وأمكنة مختلفة، وكأنّ الحكاية لم تكن لتستقرّ في تلك العصور على حال، وعلى سبيل المثال: تجري أحداث سيرة ( عليّ الزيبق ) عندما كان أحمد ابن طولون ( 270 هـ ) يحكم مصر أيّام خلافة هارون الرشيد ( 193 هـ )، وبين الأوّل والآخر في الواقع زُهاء سبعين عاماً، وتجعل السيرة عليّ الزيبق يتردّد على الأزهر الشريف، والأزهر بناه جوهر الصِّقِلِّيّ بأمر من المعزّ الفاطميّ عام ( 359 هـ/ 970 م )، أي: بعد أن حكم ابن طولون بعقود، وتملك شخصيّاتها قدرةً خارقةً على التنقل بسرعة من مكان بعيد إلى مكان أبعد ، لأنّ حوادثها تعتمد على المصادفة لا على المنطق والواقع. ومن أشهر هذه القصص الشعبيّة:

- ألف ليلة وليلة ( نشرت بين 1882 و1885 ): هي في الأصل نصّ فارسيّ قديم، يدعى ( هزار أفسانه )، أي: ألف خرافة، ويرجع في نشأته الأولى إلى أصول هنديّة، وكان محمّد بن عَبْدوس الجَهْشَيَاريّ ( 331 هـ ) قد قام في العراق بكتابة أوّل مسوّداته وتعريبه والإضافة إليه.. ومع مرور الزمن أضيفت إليه أيضاً قصص هنديّة ويونانيّة وعبريّة وعربيّة كحكاية حاتم الطائيّ وجميل بن مَعْمَر وحكايات هارون الرشيد.
وهي باختصار قصّة الملك شهريار الذي اكتشف أنّ امرأته تخونه مع عبده الأسود، فجعل طوال ثلاث سنوات يتزوّج كلّ ليلة عروساً، يقتلها صباح اليوم التالي انتقاماً من امرأته الأولى، وحتّى لا يعطي لها فرصةً لخيانته من جديد، ولكنّ شهرزاد تنجح بالاحتيال عليه والاستيلاء على مخيّلته بقصصها المثيرة التي لا تتمّها إلاّ في اليوم التالي . وهكذا ظلّت شهرزاد تسرد على شهريار حكاياتها الطويلة والشائقة ألفَ ليلة وليلة، لتنقذ بذلك نفسها، وتحمي رقاب النساء من سيف شهريار وسطوته الدامية، وذلك بعد أن أصبحت ملكةً البلاد وأمّ أولاده الثلاثة.
ولـ ( ألف ليلة وليلة ) مكانةٌ كبيرةٌ في الثقافة الإنسانيّة، فقد لعبت دوراً بالغ الأهميّة في الحياة الأدبيّة العربيّة بعامّة والآداب الأجنبيّة بخاصّة، وأسهمت في تطوّر فنّ القصّة الغربيّ نفسه، لأنّها ترجمت إلى أغلب اللغات العالميّة الحيّة. وعلى منوالها " ابتدأ الجَهْشَيَاريّ بتأليف كتاب، اختار فيه ألف سَمَر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كلّ جزء قام بذاته، لا يَعْلق بغيره، وأحضر المسامرين، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب المصنّفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه " ، حتّى اجتمع له منها 480 ليلةً، ولكنّه مات قبل أن يصل إلى الليلة الألف.
- سيرة عنترة بن شدّاد العبسيّ ( بين 1865 و1871 ): حوّلت هذه السيرة حياة عنترة الشاعر الجاهليّ إلى أسطورة، امتدّت حتّى نهاية القرون الخمسة الأولى للهجرة، وكتبها أوّل الأمر يوسف بن إسماعيل أيّام العزيز الخليفة الفاطميّ ( 365 – 386 هـ )، ثمّ أخذت الأجيال تزيد فيها حتّى أوائل القرن السادس الهجريّ، وحتّى أصبحت في أربعة مجلّدات، لا يمتدّ زمانها فحسب، وإنّما يمتدّ مكانها أيضاً، لتشمل بطولات عنترة الهندَ وفارس ومصر والشام والحبشة والسودان وجنوب أوربة وشمال إفريقية.. وقد صيغت هذه السيرة صياغةً قصصيّةً جذّابةً، وكتبت بلغة يوميّة حتّى نالت اهتماماً شعبيّاً كبيراً، وحظيت بمكانة خاصّة لدى الغرب منذ ترجمها أنطونيو كالان Antonio Galan إلى الفرنسيّة سنة 1704، والمستشرق النمساويّ فون هامر بوجستال Von Hammer Yogistal إلى النرويجيّة والدانمركيّة سنة 1802.
- سيرة سيف بن ذي يزن: هي قصّة سيف بن ذي يزن سليل ملوك حِمْير الذي ناهض الأحباش حتّى طردهم من اليمن والجزيرة العربيّة وحتّى أعلى كلمة اللّه، وهي في سبعة عشر جزءاً، تحمل كثيراً من الأساطير والمغامرات.
- سيرة بني هلال ( 1869 ): قوام هذه السيرة هو الحروب الطاحنة بين بني هلال ومَن دخل معهم من القبائل القيسيّة الأخرى كسُلَيم وعُدي وربيعة إلى إقليمي طرابلس وتونس وشمال إفريقية وبين من كان في هذه الأقاليم من الصنهاجيين وزناتة من القبائل المغربيّة، وذلك في منتصف القرن الخامس الهجري، فأساس الأحداث تاريخيّ صحيح، لكنّها سرعان ما تتحوّل إلى أساطير ومغامرات وأضغاث أحلام. وللسيرة ثلاث مراحل: الأولى هي هجرة بني هلال إلى المغرب واعتقال بطلها الخياليّ أبو زيد الهلاليّ وأبناء أخته في تونس ثمّ فراره واستنفار قبيلته لتخليص أبنائها، والثانية هي ما يعرف بـ ( تغريبة بني هلال 1871 )، وفيها تهاجر قبيلة بني هلال إلى تونس وتمكّنها سُعْدى ابنة ملكها الزناتي خليفة من دخولها وفكّ أسراها، ثمّ تمضي القبيلة حتّى تصل أقصى المغرب، والثالثة هي مرحلة أبناء أولئك الأبطال، وفيها يجمع زيدان بن أبي زيد الهلاليّ العرب من الشام والحجاز، ليكمل مسيرة والده، لكنّه في النهاية يعود إلى مصر خائباً.
- سيرة الظاهر بيبرس: هو بطل موقعة عين جالوت ( 658 هـ ) التي لم تقم بعدها للتتار قائمة، لاحقهم حتّى اتّجهوا شرقاً إلى شمال العراق، وكال للصليبيين ضرباتٍ قاصمةً، وهو حاكم مصر، اتّسع بها حتّى أقصى بلاد النوبة، وحتّى دانت له ليبيا. ويبدو أنّ السيرة لم تكتب في عهد قريب من الظاهر، لأنّ أحداثها التاريخيّة وأسماء أبطالها يشوبها كثير من الخيال، وتحفل بأساطير وأعمال خارقة للعادة.. ولم يصلنا من مجلّداتها الخمسة التي أخذ جورج بوهاس George Bohas وجان باتريك غيوم John Patrik Guillaume يترجمانها إلى الفرنسيّة منذ عام 1985 سوى مجلّد واحد.
- سيرة علي الزيبق ( 1870 ): هي مجموعة ألاعيب أو مغامرات، يقوم بها علي الزيبق نفسه، وتكاد كلّ أُلعوبة أو مغامرة منها تشكّل قصّةً، لها عقدتها الخاصّة، ولها أحداثها وشخصيّاتها، لا يجمع بين هذه القصّة وتلك إلاّ شخصيّة صاحب السيرة.
- ومن السير والقصص الشعبيّة الأخرى: سيرة الأميرة ذات الهمّة، وحمزة البهلوان، والزير سالم ( 1866 )، وقصّة عامر الكنانيّ ( 1896 )، ومجنون ليلى ( 1868 )، وحمزة البهلوان ( بين 1886 و1888 )، وفيروز شاه ( 1887 )، والراعي الأمين ( 1896 ).
- ومن السير الشعبيّة المجهولة التي لا نعرف عنها شيئاً حتّى الآن: سيرة الأرقط، وهي مخطوطة في سبعة عشر مجلّداً، وسيرة سيف التيجان التي ترجمها بيرون Perron إلى الفرنسيّة سنة 1862، ولم تحقّق، أو تترجم إلى العربيّة بعد .
والسيرة اليوم جنسٌ من السرد القصصيّ خالصٌ، يتحدّث فيها المؤلّف عن أهمّ أحداث حياته ومؤثّراتها، ويتوخّى في هذا الصدقَ في الرواية والتاريخ والدقّةَ في التحليل والتفسير.. وهي نوعان:
( أ ) السيرة الذاتيّة Autobiography، وهي أن يقصّ الكاتب فيها سيرة حياته الخاصّة، ومنها: كتاب ( الاعتبار ) لأسامة بن منقذ ( 584 هـ )، و( الأيّام ) لطه حسين، و( حياتي ) لأحمد أمين، و( أنا ) لعبّاس محمود العقّاد، و( سبعون ) لميخائيل نعيمة، و( حصاد العمر ) لتوفيق يوسف عوّاد، و( شيء من حياتي ) لمراد السباعي..
( ب ) والسيرة الموضوعيّة، أو ما يسمّى بالترجمة Biography، وهي التي يقصّ فيها المؤلّف حياة غيره، ومثالها: ( جبران ) لميخائيل نعيمة، و( الرافعيّ ) لسعيد العريان، و( الجنوبيّ أمل دنقل ) لعبلة الروينيّ.. وهذه السير العربيّة غير صريحة، لا تكاد تبوح بأسرار أصحابها وتجاربهم الحقيقيّة، ولا تبلغ ما وصلت إليه السيرة الغربيّة من صراحة واعتراف، نراها مثلاً لدى جان جاك روسّو، وأندريه جيد، وجان جينيه..


ثالثاً - الموقف العامّ من القصّة:


ظلّت النظرة إلى القصّة لدى العرب قاصرةً حتّى عهد قريب، ينظرون إليها في أنّها بدعة كاذبة، تضلّهم عن جادّة الفضيلة، وتشغلهم عن أمور دينهم، وتؤثّر في عقول العامّة وقلوبهم، وظلّ القاصّ في نظرهم وضيعاً مهيناً، لا يقف على قصصه إلاّ العامّة أصحاب العقول القاصرة. ومن هنا نشأ هذا الفنّ شعبيّاً، يزدريه الخاصّة، ويزدرون أهله، ويتّهمونهم ترفّعاً بالغفلة والحمق تارةً وبالضلالة والكذب تارةً أخرى، ولو كان القصّ كذباً، لأعرض العرب عن رواية الشعر، والشعر ديوان العرب، به يأخذون، وإليه ينتهون، حتّى رأوا أنّ أعذب الشعر أكذبه.

في كتابه ( كتاب القصّاص والمذكّرين ) ينقل ابن الجوزي ( 597 هـ ) عن بعض السلف أنّه كره القصص " لأنّ القوم كانوا على الاقتداء والاتّباع، فكانوا إذا رأوا ما لم يكن على عهد رسول اللّه  أنكروه.. وأنّ القصص لأخبار المتقدّمين تندر صحّته.. وأنّ التشاغل بذلك يُشغل عن المهمّ من قراءة القرآن ورواية الحديث والتفقّه في الدين، وأنّ في القرآن من القصص وفي السنّة من العظة ما يكفي عن غيره ممّا لا يتيقّن صحّته، وأنّ أقواماً ممّن كان يدخل في الدين ما ليس منه قصّوا، فأدخلوا في قصصهم ما يُفسد قلوب العوام، وأنّ عموم القصّاص لا يتحرّون الصواب، ولا يحترزون من الخطأ لقلّة علمهم وتقواهم. فلهذا كره القصص مَن كره، فأمّا إذا وعظ العالم وقصّ مَن يعرف الصحيح من الفاسد فلا كراهة " .

ولمّا كان الرأي أنّ كلّ بدعة ضلالة عُرض هذا الفنّ الجديد على أهل الفتوى، فأفتى بعضهم بحرمته، ففي كتابه ( الكلام والخبر ) ينقل سعيد يقطين عن أبي العبّاس الوَنْشَريسيّ في كتابه ( المعيار المعرّب ) سؤال بعضهم عن ( سيرة عنترة ) و( ذات الهمّة ): " هل يجوز بيعها ؟ فأفتى ابن قدّاح قائلاً: لا يجوز بيعها ولا النظر فيها، ثمّ سُئل عمّن يسمع هذا الحديث: هل تجوز إمامته ؟ فقال: لا تجوز إمامته ولا شهادته، لأنّهما كذب، ومستحلّ الكذب كاذب " .

وهذه التهمة بالكذب ظلّت تتردّد حتّى أوائل القرن الماضي، وهو زمن ولادة القصّة من جديد، ولعلّ من الغريب حقّاً أن تصدر عن أحد رجالات اليقظة العربيّة وأكبرهم، فالباحث يقطين في كتابه المذكور آنفاً ينقل عن الشيخ محمّد عبده وصفه لكتب السير والقصص الشعبيّة بـ " كتب الأكاذيب الصرفة "، ويذكر منها: سيرة أبي زيد الهلاليّ، وعنترة، وإبراهيم بن حسن، والظاهر بيبرس .

وهذه المواقف من القصّة - وهي مواقف عِلْية القوم وخواصّهم – تؤكّد جميعها من طرفٍ أنّها مواقف ( طبقيّة ) و( رسميّة )، لا تلبي نوازع أهل السلطة ورغائبهم كما كان الشعر يفعل، وتؤكّد من طرفٍ آخر أنّ القصّة فنّ شعبيّ، تداوله سواد الناس وعامّتهم منذ عهد بعيد، ولكنّه لم يسدْ كالشعر، ولم ينم نموه، لأنّ الموقف منه كان خطيراً وعظيماً كالموقف من الخمرة والميسر !

إنّ ما اعترى القصّة من كذب لا يعدو أن يكون خروجاً عن الواقع والمألوف، لأنّ القصّة في أبسط مكوّناتها تخييل، يحاكي الواقع، وربّما لا يحاكيه عن قرب، ولمّا كان أغلب شخصيّات قصصنا الشعبيّ من أهل الجاهليّة أو من الشطّار والعيّارين واللصوص، وكانت أحداثها وقائع ثأر وسَرِقة تارةً أو مغامرات عشق وهيام تارةً أخرى، فإنّنا عندئذٍ نفهم الأسباب الأخرى التي جعلت السلف يكره القصص، ويكذّبه، ثمّ يلجأ أخيراً إلى تحريمه.

ولا شكّ في أنّ هذه البداية العسيرة للقصّة العربيّة لا تكاد تختلف عن القصّة الغربيّة التي بدأت في العصور الوسطى على شكل مغامرات وخرافات وأساطير، ولكنّ قصصنا الشعبيّ الذي بدأ قبل هذه العصور بوقت طويل لم يكتب له أن يتطوّر على المدى، بل لم يُكتب له أن يُذاع، وينتشر، لأنّ ما بقي منه مازال مخطوطاً أو بعيداً عن التناول لسبب أو لآخر، والمكتبات العربيّة والعالميّة تزخر بالعشرات من مخطوطات السير الشعبيّة والحكايات التي لا نعرف عنها شيئاً بعد .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالأحد 15 مارس - 7:50

أنواع القصّة


خلط بعضهم بين مصطلحي الرواية والقصّة، لأنّ مادّة كلّ منهما الحكاية، ورأى أنّ ما يميّز أحدهما من الآخر هو الحجم ودرجة التكثيف ومقدار التعامل مع تلك العناصر الفنّيّة المشتركة بينهما ، ولكنّ النقّاد اليوم تخلّصوا من هذا الخلط الصُّراح، وأصبحت القصّة فنّاً، له عناصره الفنّيّة، وله أسئلته الخاصّة.

أوّلاً - الرواية Novel:


هي قصّة طويلة، تصوّر جانباً واسعاً من جوانب الحياة والمجتمع، لا يستغرق ساعاتٍ أو أيّاماً، بل يمتد أشهراً وسنواتٍ، وتنهض كالقصّة القصيرة على طائفة من العناصر كالشخصيّة والحبكة والزمان والمكان والحدث واللغة.. ولكنّها تختلف عنها – كما قلنا - في الحجم ودرجة التكثيف ومقدار التعامل مع تلك العناصر الفنّيّة المشتركة بينها وبين القصّة القصيرة.

والروائيّ يقف على عكس القاصّ عند التفاصيل الدقيقة للأحداث والوقائع، يربط بعضها ببعض ربطاً محكماً، ويختار شخصيّاته المتعدّدة من وسط ملائم لهذه الأحداث، فيبرز لإنجاز هذه الأحداث ملامحها الذاتيّة، ويحلّل نفسيّاتها، ويرصد انفعالاتها وعلاقاتها.. ففي الرواية مجال كبير للتحليل والتصوير والتفسير، وكاتبها أشبه بالباحث الاجتماعيّ أو المؤرّخ أو العالم النفسيّ، أو كأنّ فيه من هؤلاء جميعهم نِسباً متفاوتةً. وإذا كانت الرواية أكثر الفنون الأدبيّة التصاقاً بحركة المجتمع وتطوّره، فإنّها على الدوام قد عرفت أنماطاً جديدةً، وشهدت اهتماماً نقديّاً كبيراً، وربّما كان هذا الاهتمام قد أفاد القصّة القصيرة حقّاً، ولكنّه في النهاية حرمها من نظريّة نقديّة خاصّة بها.

ثانياً - القصّة القصيرة Short story:


تختلف القصّة القصيرة في الحجم عن الرواية والأقصوصة / القصّة القصيرة جدّاً، ولكنّها لا تكاد تختلف عنهما في عناصر البناء الفنّيّ ووسائله، لأنّ هذه الأنواع الثلاثة في مجملها سرد حكائيّ. وقد ظلّت القصّة القصيرة عصيّةً على التعريف، لأنّ علاقتها حميميّة أيضاً بمختلف أشكال هذا السرد الحكائيّ الأخرى كالأسطورة والخرافة والحكاية، حتّى اختلف مَن عايشها على تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً. وهنا سنعرِض ما وجدناه من محاولات لتعريف القصّة القصيرة قبيل أن نخلص إلى محاولة جديدة لتعريف هذا الفنّ الحكائيّ:

- يقول رينيه غودين Rene Godenne في موضع: " إنّ القصّة هي أساساً تعبير عن حكاية "، ويقول في موضع آخر: " هي أحدوثة " .

- يقول الدكتور الطاهر أحمد مكّي: " إنّ القصّة حكاية أدبيّة، تدرك لتقصّ، قصيرة نسبيّاً ذات خطّة بسيطة وحدث محدّد حول جانب من الحياة لا في واقعها العاديّ والمنطقيّ وإنّما طبقاً لنظرة مثاليّة ورمزيّة، لا تنمّي أحداثاً وبيئاتٍ وشخوصاً، وإنّما توجز في لحظة واحدة حدثاً ذا معنى كبير " .

- يؤكّد والبول Walpole أنّ " القصّة لا تكون قصّةً إلاّ إذا كانت سجلاً لأمور مملوءة بالأحداث وبحركات متتابعة وبتدرّج غير متوقّع، يقود إلى الذروة خلال عمليّة التشويق " .

- يقول روبرت شولز Robert Schole: " القصّة هي حكاية مختلقة " .

- يقول ولسن ثورنلي Wilson Thornley: " هي سلسلة من المشاهد الموصوفة التي تنشأ خلالها حالة مسبّبة، تتطلّب شخصيّةً حاسمةً ذات صفة مسيطرة، تحاول أن تحلّ نوعاً من المشكلة من خلال بعض الأحداث التي ترى أنّها الأفضل لتحقيق الغرض، وتتعرّض الأحداث لبعض العوائق والتصعيدات، حتّى تصل إلى نتيجة " .

- يقول إدوارد فورستر Forster Edouard:" القصّة سرد للحوادث مرتّبةً تبعاً لتسلسل زمنيّ " .

_ يقول إنريكى أندرسون إمبرت Enrique anderson imbert: " إنّ القصّة القصيرة هي تخيّل، لأنّها تعرض حدثاً لم يقع أبداً، وأحياناً تعيد ترتيب أحداث فعليّة، لكنّها تركّز بصفة أساسيّة على الجماليّة أكثر من الحقيقة " .

ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في التعاريف، فإنّ مفهوم القصّة القصيرة في مخيّلة المتلقّي صار واضح الملامح والقسمات، لا لبسَ في جنسه، ولا اضطرابَ في عناصره الفنّيّة. والقصّة القصيرة الجديدة خرجت عن أيّ محاولة للتعريف، وحاولت أن تتمرّد على تلك العناصر التي لم تكن في يوم من الأيّام أقفاصاً، تسلبها كثيراً من حريّتها ومن سحرها وروائها.. وهي فنّ لَدِن، لا ينظمه شكل أو أشكال محدّدة، ولا يمكن أن يحدّه تعريف، ولا أن يقسِره قيد، لأنّ الحياة نفسها بلا تعاريف ولا قيود، والقصّة هي الحياة أو صورة من صورها، تعكسها مرآة الفنّ غير المستوية، قال روبرت شولزRobert Scholes : إنّ " كسر الحقيقة بطريقة هادفة وسارّة هو عمل كاتب القصّة.. وإذا كان للقصّة وجود حقيقيّ، فإنّ تجربتنا معها غير حقيقيّة " .

هي باختصار حكاية قصيرة النَّفَس، تتّجه من فورها إلى حدث من أحداث الحياة، فلا تحتمل الاستطراد في السرد ولا الإسهاب في الحوار، ولا يتحقّق لها التأثير Effect الشامل إلاّ إذا توافرت فيها وحدة الفعل والزمان والمكان، وهو ما عبّر عنه الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بو Edgar Allan Poe ( 1809 – 1852 ) بوحدة الانطباع Unity of impression، وعدّها خصيصةً أساسيّةً من خصائصها، ولمّا كان زمانها قصيراً ومكانها محدوداً، تقيّدت حركة شخصيّاتها، وضعفت ردود أفعالهم، وبَهِتت ملامحهم. ولعلّ هذا هو الذي جعل القصّة القصيرة تجيب عن سؤال واحد وحقيقة واحدة لا عن أسئلة وحقائق متعدّدة كالرواية، فالقاصّ ينظر إلى الحياة نظرةً أحادية الجانب على عكس الروائيّ، ويلتقط منها حدثاً خصب الدلالات محدّد الشخوص، ثمّ يحاول أن يجعل منه موقفاً فنّيّاً، يؤدّي إلى توضيح حقيقة من الحقائق بأسرع الطرق وأبلغها، ولا سيّما التكثيف والاقتصاد والبلاغة.. وقد تدور القصّة القصيرة حول فكرة أو مشهد أو حالة نفسيّة أو لمحة محدّدة من ملامح الحياة الجيّاشة. ولا بدّ لهذا الكاتب أن يكون شديد الصلة بالحياة وحقائقها، خبيراً بالواقع وأحداثه، متمكّناً من اللغة وأساليبها. ومن هنا تهيّب بعض الكتّاب هذا الفنّ، وعملوا على تجويده وتنقيحه مرّات، حتّى بلغت لدى وليد إخلاصي مثلاً ثلاثاً ولدى زكريّا تامر عشراً، وربّما بلغت سنواتٍ، وهذا ناثانيال هوثورن Nathaniel Hawthorn – وهو أوّل كاتب قصّة قصيرة أمريكيّ – يعكف اثني عشر عاماً على كتابة مجموعته القصصيّة الأولى.

ولمّا أخذت القصّة القصيرة ملامحها الخاصّة، وصارت عملاً فنّيّاً صِرْفاً، يتطلب جهوداً مضنيةً، فإنّنا نجد أنّ هناك نقّاداً، انصرفوا إلى دراستها ووضع أسسها ومبادئها. وأوّل مَن حاول في وقت مبكّر أن يقنّن القصّة القصيرة كفنّ يخالف الرواية في بنائه وشكله وهدفه هو الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بوEdgar Allan Poe الذي " مارس كتابة قصص تستهدف الفنّ القصصيّ في ذاته ومتعة الإثارة الدراميّة التي يمكن أن يحدثها هذا الفنّ، فيهزّ ركود الحياة، ويؤدّي فيها عنصر المفاجأة والتشويق وإثارة الفزع والشفقة دوراً أساسيّاً.. وأدرك أنّها لا تتحمّل اللغو الكثير والحشو والتفصيلات المتعدّدة، وعرف كذلك أنّها تعتمد على خلق الجوّ ببضع كلمات لا بصفحات مطوّلة، ثمّ ما لبث أن وضع لهذا الفنّ قواعد ومقاييس وقيوداً " .

وللقصّة القصيرة قدرةٌ خاصّة على التشكّل في مختلف الأشكال القصصيّة التي تحتفظ من جهةٍ بجذورها المتشعّبة كالمقامة والنادرة والخرافة والسيرة.. أو التي تطرأ على بنائها الَّلدِن من جهةٍ أخرى، فتكسر وتيرة السرد تارةً، أو تتلاعب بمستوياته تارةً أخرى، ومن هذه الأشكال الجديدة: قصص اليوميّات، والتداعيّات، والمونولوج، وقصص الأحلام، والوثائق، والكوابيس.. وهذه الأشكال كلّها " لا تلتزم بالمألوف في البناء التقليديّ من بداية وعقدة وحلّ، بل أصبح البناء يتكوّن من بنى جزئيّة متراصّة البنية الشموليّة، فأصبح الحدث لا يتمركز حول نقطة ما في نسيج القصّة، بل تتبعثر دلالته في البنى الجزئيّة للقصّة " , وبالتالي تكوّن هذه البنى بناءً كليّاً جديداً، يقول ما يقوله أيّ بناء آخر، ويوحي بما يوحي به، " فلم تعد القصّة القصيرة سرداً مباشراً أو تكوينَ عقدة ومحاولة الخلاص منها، بل سادت ظاهرة التفتّت، فصارت القصّة لحظاتٍ مكثّفةً ودفقاتٍ قصصيّةً متواليةً، تتراصّ في وحدة متماسكة، لتبرز في عالمنا إيحاءاتٍ فنّيّةً، تعرّي زيف الواقع " ، فالقصّة القصيرة صارت تربةً صالحةً للتجديد والتجريب، تتيح للقاصّ أن يستخدم مختلف معطيات الفنون الأخرى، وكلّما خرجتْ على نظامها الفنّيّ كانت أكثر جدّةً وألصق بالحياة، لأنّ الحياة نفسها لا تسير على وتيرة واحدة ونظام صارم. ومع كلّ هذه الأشكال لا تتخلّى القصّة القصيرة عن مشابهة الواقع ومحاكاته.. ومن هنا ميّزت إيلين بالدشوايلر Eileen Baldeshwiler بين نوعين من القصص القصيرة: نوعٍ يعتمد على المحاكاة Imitation، وآخر يعتمد على الغنائيّة Lyricism، وهي تصف قصص المحاكاة بـ " أنّها المجموعة الأكبر من القصص التي تتميّز بفعل خارجيّ، يتطوّر على نحو منطقيّ ومن خلال شخصيّات يتمّ صنعها أساساً، لتتقدّم بالحبكة، وتبلغ ذروتها بالنهاية الحاسمة التي تعطي أحياناً بصيرةً شاملةً، وتستخدم لغة الواقعيّة النثريّة، وأمّا قصص الغنائيّة، فهي تركّز على التغيّرات الداخليّة والأمزجة والمشاعر مستخدمةً أنماطاً بنائيّةً مختلفةً، تعتمد على تشكيل العاطفة نفسها، وتعتمد في معظم الأحوال على النهاية المفتوحة، وتستخدم لغة القصيدة الموجزة والمثيرة للعواطف والمشخّصة " . فهذا النوع من قصص الغنائيّة يشترك مع قصص تيار الوعي Stream of consciousness – وهي في الأساس تقنيّة روائيّة – في استخدام لغة قريبة من لغة الشعر وفي ارتياد منطقة متشابهة من التجربة الإنسانيّة، هي منطقة المشاعر والصور الغائمة التي لم تدخل بعدُ طور التشكيل النهائيّ، ولكنّ قصص تيار الوعي لا تكتفي برصد حركة الداخل فحسب، وإنّما تسعى أيضاَ إلى رسم الشخصيّة الإنسانيّة في مختلف جوانبها: داخلها وخارجها، ماضيها وحاضرها، أحلامها وهواجسها.. وهكذا تتحوّل القصّة إلى عالم ذهنيّ مضطرب ومتشابك، يزخر بالتداعيّات، ويفيض بالمشاعر المبهمة. وممّن برع في هذا الاتّجاه: هاني الراهب، ووليد إخلاصي، وإدوار الخرّاط، وعبد الحليم يوسف..

ثالثاً - الأقصوصة Novella، أو القصّة القصيرة جدّاً Very short story:


مؤخّراً استقرّ مصطلح القصّة القصيرة جدّاً في مواجهة مصطلح الأقصوصة الذي كان يختلط بدوره مع مصطلح القصّة القصيرة، وصارت الحدود فاصلةً بين القصّة القصيرة والقصّة القصيرة جدّاً التي غدت فنّاً راسخ المعالم محدّد الملامح واضح المقوّمات.. وإذا كنّا قد وجدنا أنّ معيار الحجم هو الفيصل الرئيس بين الرواية والقصّة القصيرة، فإنّ هذا المعيار هو أيضاً يميّز القصّة القصيرة من القصّة القصيرة جدّاً التي لا تكاد تتجاوز صفحةً أو بضعة أسطر.

ومن أوائل الذين كتبوا قصصاً قصيرةً جدّاً التشيكيّ فرانز كافكا Franz Kafka ( 1883 – 1924 ) في مجموعته القصصيّة ( وصف الصراع وقصص أخرى ) . ومن أوائل الذين استخدموا هذا المصطلح الروائيّ الأمريكيّ أرنست همنغواي Ernest Hemingway ( 1898 – 1961 ) الذي أطلق عنوان ( قصّة قصيرة جدّاً ) على إحدى قصص مجموعته ( حدث في زماننا ) الصادرة في نيويورك عام 1958 . وعربيّاً يبدو أنّ أوّل من استعمله فتحي العشريّ الذي ترجم رواية ( انفعالات ) للكاتبة الفرنسيّة ناتالي ساروت Natalie Sarraute عام 1971، وأطلق عليها ( قصصاً قصيرة جدّاً ) لا روايةً ولا قصّة.

والقصّة القصيرة جدّاً حدث خاطف، لَبوسُه لغة شعريّة مرهفة، وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة Irony .. هي قصّ مختزل وامض، يحوّل عناصر القصّة من شخصيّات وأحداث وزمان ومكان إلى مجرّد أطياف، ويستمدّ مشروعيّته من أشكال القصّ القديم كالنادرة والطرفة والنكتة.. فالشكل قديم، يعود إلى تلك البدايات الأولى، وربّما يعود إلى الرواد الأوائل كـ ( خواطر ) محمّد تيمور الملحقة بمجموعته القصصيّة ( ما تراه العيون ) 1922.

وللقصّة القصيرة جدّاً أسس أربعة، تستند إليها، وهي:

1 – الموضوع Motif: يختار القاصّ من الموضوع لمحةً عميقةً أو مشهداً عابراً أو ركناً خفيّاً من أركان الحياة أو زاويةً بعيدةً من زوايا النفس.. ويسلّط عليها الضوء، ليكتشف سرّها الذي قد لا يلاحظه سواه من الناس. وهذا القاصّ لا يعنيه من الموضوع كلّه إلاّ هذا الكشف، يومض في نهاية القصّة إيماضاً خاطفاً، حتّى يَبْهَر الأعين، ويُرْعِد الأطراف. وإذا كانت القصّة القصيرة جدّاً تملك مثل هذه الجرأة على سبيل المضمون، فلا شكّ في أنّ جرأتها على الشكل كانت أكبر وأظهر، وذلك حين خرجت على البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة، وتناولت عناصره على طريقتها الخاصّة بالتكثيف Intensification والاختزال Stenography والانزياح Displacement .. وهو ما جعل الدكتور أحمد جاسم الحسين في كتابه ( القصّة القصيرة جدّاً ) يعدّ الجرأة ركناً مهمّاً من أركانها المكوّنة .

2 – التكثيف Intensification: هو عنصر جوهريّ من عناصر القصّة القصيرة جدّاً، يلجأ إليه القاصّ، ليضمن لقصّته غنائيّةً صريحةً وقصراً شديداً، فلا مجال في هذا الفنّ للترادف، ولا مكان للهذر ولا للوصف.. فإذا ما احتاجت القصّة القصيرة جدّاً إلى التعبير عن تطوّر الحدث وتقدّمه رصدته كليماتٌ قليلةٌ ذات إيقاع وإيحاء، وكأنّ هذه القصّة تبني الحدث كلمةً كلمةً بناءً محكماً، لا فضل فيه ولا زيادة، لأنّ انزياحها عن النظام المألوف للقصّة القصيرة إلى نظام آخر يقوم على الاقتصاد في مختلف العناصر بشكل عام وعلى التكثيف الشعريّ والدراميّ بشكل خاصّ.

3 – الإيماض Scintillation : لا بدّ أن تخلص القصّة القصيرة جدّاً إلى هذا الإيماض الذي يترك في الذهن والنفس تأثيراً عميقاً، ربّما فاق ما تتركه القصّة القصيرة من تأثيرات وما تثيره من مشاعر، والإيماض في أبسط غاياته كشف وفضح ودهشة..

4 – المجاز Metaphor المفرط: تظهر القصّة القصيرة جدّاً اهتماماً كبيراً بلغة المجاز لا لغة الحقيقة، لأنّ مادتها ليست إلاّ أطياف الواقع لا الواقع نفسه وظلال الحياة لا الحياة نفسها، وهي مادّة تأخذ من وسائل التعبير ما يلائمها من فنون البديع كالتورية والطباق، وتأخذ من وسائل التصوير ما يناسبها من فنون البيان من تشبيه واستعارة وكناية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالأحد 15 مارس - 7:53

إنّ في طبيعة هذا الفنّ مزالقَ، تجعله يتداخل مع أجناس أدبيّة أخرى، فالتكثيف قد يجنح به إلى ( الخاطرة )، والموضوع قد يوقعه في إسار ( المقالة )، واللغة الشعريّة قد تقرّبه جدّاً من ( قصيدة النثر )، ووميضه الخاطف قد يميل به إلى ( الومضة ) الشعريّة.. وهنا سنعرض بعض النماذج من القصص القصيرة، ونرى ما استدعته من العناصر وما اعتورها من العلل.

( 1 ) في قصّة ( عطاء ) تقول القاصّة وفاء خرما: " في الطريق خلع حذاءه، ووضعه في قدمي مشرّد، كما تخلّى لآخر عن كنزته، وحين بكى أطفال الجيران مطالبين أمّهم بالطعام دفع إليهم بكلّ ما في حوزته من خبز وجبن وزيتون.. وعندما لم يعد يخرج من غرفته تلصّصوا عليه، فرأوه يجلس متقوقعاً على نفسه عارياً جائعاً مقروراً " .

فالقصّة على قِصرها الشديد تفصح عن أربع صور قصصيّة مؤثّرة، توحي جوامع كلماتها المعدودة بما توحي به من مشاهد البؤس والفاقة والجوع، وتبلغ ذروتها الدراميّة في المشهد الأخير الذي تلخصّه أربع أحوال، تصوّر ما انتهى إليه البطل من مصير فاجع. وهذا البطل لا نعرف من ملامحه الشخصيّة سوى ضميره النبيل ( هو ) الذي أغنى عنها، وجعل السرد موضوعيّاً، لا ترادف بين مفرداته ولا هذر، وذلك بما يحمله هذا الضمير الغائب / الحاضر من الإيثار، وهو غاية النبل الإنسانيّ وهدفه.

ومن حيث الحجم لو نظرنا في سواها من القصص القصيرة جدّاً في مجموعتها ( الأجنحة المتكسّرة ) لرأينا أنّ أقصرها – وهو قصّة ( الحبيب الأوّل ) وقصّة ( الحبّة الزرقاء ) – يبلغ ستّ عشرة كلمةً، وأنّ أطولها – وهو قصّة ( صرخة ) وقصّة ( رؤيا ) – يبلغ زهاء مئتي كلمة، وفي هذا الحجم الرهيف يكمن سرّ هذا النوع من القصّ كأيّ طرفة أو نادرة من نوادرنا الشعبيّة أو كأيّ مثل من أمثالنا العربيّة، يُخفي وراءه قصّةً كبيرةً، ويلخصّها في عبارة أو عبارتين تلخيصاً بليغاً.

( 2 ) في قصّة ( ابتسامة ) يقول الدكتور فاروق أوهان: " زوجة المرحوم لا تسمع من الَّلغَط الظاهر والمخفيّ إلاّ رنين ضحكات الحبيب الغائب، فقد ألهتها، فصارت بعيدةً بحواسّها عابرةً الأمكنة والأوقات، تقطُف من كلّ لحظة سعيدة صورةً أو ذكرى أو موقفاً أو جملةً أو لمسةً.. هي شريط حياتها مع زوجها الراحل بعيداً، فتعجب لهذا التناقض، فصور الزوج وكلامه وأفكاره لا تزال تعيش معها حارّةً دافئةً، لكنّها سريعة كرعشة دافقة ومأزومة كعاطفة جيّاشة.. بينما لا يستجيب وجهه في الصورة لأيّ ردّ فعل، وكأنّه يبتسم للمدعوين على أمل اللقاء " .

في هذه القصّة يصوّر الدكتور أوهان مشاعر امرأة عجوز، مات عنها زوجها، فلم يبق لها منه إلاّ صورة وذكرى، وهو موضوع قد يتلاءم والقصّةَ القصيرة، لأنّ فضاءها للوصف أوسع وللمشاعر المتدفّقة والأحزان المتلاحقة أرحب. ولذلك كان " شريط حياتها مع زوجها " خالياً من الصور إلاّ أنّه يضجّ باللغط المبهم، وتشيع فيه الأسماء المعطوفة والمفردات المترادفة، وكأنّه سرد قصير لا قصير جدّاً، أو كأنّه خاطرة لا قصّة. والكاتب لجأ في النهاية إلى التكثيف، ولكنّ الموضوع كان أكبر ممّا يرمي إليه، وكان مزلقها الوخيم.

وإذا ما اطّلعنا على مجموعته ( رسائل حبّ من نيرغال ) – وهي مجموعة من القصص القصيرة جدّاً – رأينا أنّ الكاتب كان يحسّ بالصلة الوثيقة بين هذا النوع من القصّ وبين قصيدة النثر، فكتب قصصه من حيث الشكل على طريقتها وطريقة شعر التفعيلة أشطراً متفاوتة الطول، وحاول من حيث المضمون أن يستفيد من قدرتها على الإيماض وعلى التكثيف الشعريّ والدراميّ، ولكنّه أثقل هذه القصص بالأسماء والرموز البعيدة التي احتاجت إلى شروحٍ وحواشٍ، أفقدتها كثيراً من رونقها وحيويّتها وقدرتها على التوصيل والإيحاء.

( 3 ) في قصّة ( القفص ) يقول القاصّ عدنان محمّد : " صنع الحدّاد قفصاً جميلاً، وضع خبرة عمره في تمتينه وتزيينه، دخل إليه، أحكم إغلاق الباب خلفه، تذكّر أنّه لم يصنع مفتاحاً للخروج منه، فجعل يتغنّى بالحرّيّة " .

والقاًصّ محمّد لم يسمّ هذه القصّة وأمثالها من مجموعته ( حقل من ريح ) قصصاً قصيرةً جدّاً، بل أطلق عليها اسم ( أحلام )، وكأنّه كان يشير إلى أنّ هذا النوع من القصّ مجرّد حلم خاطف، لا غاية له إلاّ الإيحاء، ولا قدرة له على الإسهاب في التعبير والتصوير. ومن هنا تخلّت الجملة عن أيّ فضلة، ولو كانت هذه الفضلة حروف العطف، أو كانت تابعاً من التوابع. والقصّة تعتمد – كما نرى – على عنصر المفاجأة الذي يملأ العين دهشةً والقلب أسىً، والذي لم تستكن له شخصيّة الحدّاد، بل راحت تنشد الحرّيّة، لأنّها كانت تدرك سلفاً ألاّ فرقَ بين قفص الواقع وقفص الحديد، وهو ما جعل الحدّاد – وهو في أوج حرّيّته - يبني لنفسه قفصاً جميلاً.

وممّن أخلص لهذا الفنّ إخلاصاً كبيراً، حتّى كان رائد القصّة القصيرة جدّاً بلا منازع الأديب الفلسطينيّ محمود علي السعيد ( ترشيحا 1943 ) الذي أصدر تسع مجموعات قصصيّة خلال عقدين من الزمن، هي على التوالي: ( الرصاصة 1979 )، و( المدفأة 1980 )، و( المنقل 1982 )، و( القصبة 1982 ) ، و( المحاولة 1983 )، و( الشكل 1983 )، و( نصف البرتقالة 1985 )، و( بطاقة رقم 5 ) 1985، و( إلى فراشة البحر 1987 ). ولعلّ قصّته ( الرصاصة ) المنشورة في مجلّة ( الموقف الأدبيّ ) السوريّة عام 1973هي أوّل قصّة فنّيّة قصيرة جدّاً، وهو يرى في حوار معه منشور في ( ملحق الثورة الثقافيّ ): 69 في 13/ 7/ 1997 أنّ القصّة القصيرة جدّاً " تتوسّل الشعريّة مرتكزَ بثّ وإرسال عبر جملة من الصور المجنّحة، يلعب فيها التخييل الوثّاب دورَ البطولة، والتكثيف والتلخيص والاختصار دستورَ تعامل، وزاوية الرؤية البؤريّة محطّةَ رنوّ "، هي " تقطير الزمان في لحظة والمكان في قطرة، أو قل: شذرة مشهد، الشخصيّات والحدث في فتحة فرجار جدّ مضغوطة توخّي المغنطة والإدهاش.. ".

ومن كتّاب القصّة القصيرة جدّاً في مصر: نجيب محفوظ في ( أصداء السيرة الذاتيّة )، ومحمّد المخزنجيّ، ويحيى الطاهر عبد اللّه، ومحمّد مستجاب، وناصر الحلواني، ومنتصر القفاش، ورفقي بدويّ، وأحمد عوض محمّد، وعبد الحكيم حيدر.. وفي فلسطين: محمود شقير، وطلعت محمود سقيرق في ( الخيمة ) و( السكّين ) 1987، وفي الكويت: وليد الرجيب، وفي العراق: إبراهيم أحمد، وفاروق أوهان، وعبد الرحمن مجيد الربيعيّ، ومحمود البياتيّ، وعبد الستّار ناصر..

وفي سورية أصدر بعض الكتّاب مجاميع من القصص القصيرة جدّاً، ومنهم: وليد إخلاصي في ( زمن الهجرات القصيرة 1970 )، و( الدهشة في العيون القاسية 1972 )، ونبيل جديد في ( الرقص فوق الأسطحة 1976 )، وضياء قصبجي في ( إيحاءات 1995 ) و( إيحاءات جديدة 1999 )، ود. أحمد جاسم الحسين في ( همهمات ذاكرة 1997 )، ومروان المصريّ في ( أحلام عامل المطبعة 1996 )، ونجيب كيّالي في ( ميّت لا يموت 1996 )، وعزّت السيّد أحمد في ( الموت بدون تعليق 1994 )، وهيمى المفتي في ( ومضات 1998 )، وفوزيّة جمعة المرعي في ( بحيرة الشمع 1999 )..

وبعضهم الآخر ألحق بمجاميعه القصصيّة عدداً منها، وهم: زكريّا تامر في أغلب مجموعاته القصصيّة، وأيمن الطويل في ( الدائرة 1981 )، ووليد معماريّ في ( حكاية الرجل الذي رفسه البغل 1987 )، ونضال الصالح في ( الأفعال الناقصة 1990 )، ومحمّد إبراهيم الحاج صالح في ( قمر على بابل 1993 )، و( دفقة أخيرة 1995 )، وعدنان محمّد في ( حقل من ريح 1997 )، وخطيب بدلة في ( وقت لطلاق الزوجة 1998 )، ووفاء خرما في ( الأجنحة المتكسّرة لسين وعين 1999 )، ومحمّد محيي الدين مينو في ( أوراق عبد الجبّار الفارس الخاسرة 1999 )، ومحمّد الحاج صالح في ( يوم في حياة مجنون 1990 )، وفراس سليمان محمّد في ( الأشعث والرجل الضئيل 1996 )، ونجاح إبراهيم في ( حوار الصمت 1997 )، وجمانة طه في ( عندما تتكلّم الأبواب 1998 )، ونور الدين الهاشميّ في ( قصّة انتحار معلن 1998 )، ومحمّد إبراهيم الحاج صالح في ( قمر على بابل 1993 ) و( دفقة أخيرة 1995 )، وابتسام شاكوش في ( محاولة للخروج من المجال المغناطيسيّ 1997 ) و( إشراقة أمل 1998 ) و( الشمس في كفّي 1999 )، وإبراهيم خرّيط في ( حكايات ساخرة 1998 )، وأمية الجاسم العبيد في ( عسلها مرّ 1999 )، ومحمّد منصور في ( سيرة العشّاق 1999 )..

وفي مجال هذا القصّ القصير جدّاً يفتقر نقدنا العربيّ الحديث إلى دراسات نظريّة وتطبيقيّة، بل توشك هذه الدراسات أن تكون غائبة تماماً، ولعلّ دراسة الدكتور أحمد جاسم الحسين هي الوحيدة التي أخلصت لهذا الفنّ، ولكنّنا نجد هنا وهناك نُثاراً من الدراسات التي لم تؤسّس بعدُ لنظريّة نقديّة خاصّة بهذا الفنّ، ومنها: دراسة الدكتور خيري دومة ( القصّة القصيرة جدّاً: دراما الاختزال والتكثيف ) في كتابه ( تداخل الأنواع في القصّة القصيرة ) ، ودراسة الدكتور نضال الصالح ( القصّة القصيرة جدّاً ) في كتابه ( القصّة القصيرة في سوريّة: قصّ التسعينات ) ، ودراسة الدكتور جميل حمداويّ المنشورة في عدّة مواقع على الإنترنت

يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 3:19

البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة



للقصّة القصيرة كغيرها من الفنون بناء فنّيّ متعدّد العناصر، إذا ما افتقد واحداً منها تداعى، وهي فنّ سريع التفلّت، ينسرب من بين يدي صاحبه من غير رويّة ولا إحكام، فيستحيل أقصوصةً أو حكايةً أو خاطرةً..
إنّ عمليّة البناء القصصيّ تبدأ من حدث ما، ينشأ من موقف من مواقف الحياة، وينمو، ويتفرّع أحداثاً أخرى، تحتبك، وتتعقّد حين تبلغ الوسط، لتخلص في لحظة فاصلة إلى نهاية الحدث، ولكنّ القصّة الجديدة اليوم لم تعد تلتزم بهذا القانون الراتب للأحداث التي تنطوي على بداية ووسط ونهاية، لأنّ الحياة نفسها – والقصّة قطعة من الحياة – لا تسير على وتيرة واحدة. وهذا لا يعني دائماً أنّ القصّة تشتمل على حدث، يتغصّن، ويتعالى، فقد تجيء خبراً أو مجموعة أخبار، وقد تكون رسالةً أو حلماً، تداعياتٍ أو يوميّاتٍ.. وللقصّة الحديثة أشكال جديدة، خرجت بجرأة عن الشكل السرديّ المألوف للقصّة القصيرة، فحقّق بذلك أصحابها تميّزاً ومكانةً وحضوراً لافتاً.

وهنا سنحاول أنّ ندرس عناصر البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة عنصراً عنصراً، فلعلّنا نتعرف أكثر إلى عمليّة البناء القصصيّ نفسها، وهي كأيّ عمليّة فنّيّة لا يمكن أن تقوم إلاّ على عناصر، هي عمادها، وهي مادتها الأولى.

- البيئة Environment:
هي عنصر رئيس من عناصر القصّة Elements of story، وإن يكن أحياناً عنصراً غير لافت، فإذا ما كان للقصّة وجود حقيقيّ، فإنّ لهذا الوجود عناصرَ فنّيّةً عدّةً، تجعل من القصّة قطعةً من الحياة، وسواء أكانت هذه الحياة واقعاً Reality أم خيالاً Fiction لا يمكن لشخصيّاتها إلاّ أن تحيا في محيط أو وسط أو إطار.. وهي مسمّيات واحدة، ترادف البيئة في المحصّلة، يقول أوستن وارين Austin Warren في معرِض حديثه عن ( طبيعة السرد القصصيّ وأنماطه ): " الإطار هو البيئة، والبيئة – ولا سيّما البواطن البيتيّة – قد تصوّر على أنّها تعبيرات مجازيّة عن الشخصيّة "، ويراها المكوّن الأكبر للقصّة، فيقول: " إنّ البيئة قد تكون المكوّن الأكبر – المحيط منظوراً إليه كسببيّة اجتماعيّة أو طبيعيّة كشيء ليس للفرد عليه سيطرة فرديّة كبيرة " .

إنّ مصطلح البيئة فضفاض رحب، فهو ليس مفهوماً اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً أو جغرافيّاً أو سياسيّاً فحسب، وإنّما هو أيضاً مفهوم فكريّ، يتردّد في مختلف جوانب الفكر، ليعبّر عن جملة الظواهر المؤثّرة في الفرد، وهو في اللغة: المنزل والحالة، قال ابن منظور: " البيئة والباءة: المنزل.. وبوّأته منزلاً، أي: جعلته ذا منزل " ، وقال الفيروز أباديّ: " البِيئة بالكسر: الحالة " ، والبيئة في الاصطلاح تطلق " على مجموع الأشياء والظواهر المحيطة بالفرد والمؤثّرة فيه، تقول: البيئة الطبيعيّة أو الخارجيّة، والبيئة العضويّة أو الداخليّة، والبيئة الاجتماعيّة، والبيئة الفكريّة " . فالبيئة بيئات، تتنوّع، وتتلوّن، لتشمل مختلف جوانب الحياة في أُطُر عامّة من الزمان والمكان واللغة، تحيط بتلك الظواهر، وتجعلها ذات صبغة محليّة، حتّى كأنّ هذه الصبغة خصيصة وميزة، أو كأنّها الوجه الحقيقيّ للنصّ نفسه، فقصص نجيب محفوظ في كثير من وجوهها هي في الواقع بيئة ( القاهرة )، وزكريّا تامر هو ( دمشق )، وإبراهيم الكوني هو ( الطوارق )، ومحمّد المرّ هو ( دبيّ )، وخطيب بدلة هو ( إدلب ).

بعد هذا وذاك نتساءل: ما صلة البيئة بالواقعيّة ؟

إنّ البيئة القصصيّة هي الواقع نفسه دون تمويه ولا تزييف، بل هي التمثيل الموضوعيّ للواقع المحلّيّ في مختلف مستوياته: الزمانيّة والمكانيّة واللغويّة والاجتماعيّة، سواء أكان هذا التمثيل وصفاً أميناً كلّ الأمانة أم تصويراً فنّيّاً، لا يضع البيئة في الحُسبان هدفاً وأرَباً.

المستوى الاجتماعيّ : المستوى اللغويّ : المستوى المكانيّ : المستوى الزماني :

المجتمع: مظاهره، وتقاليده، وانتماءاته.. وعلاقته بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى، ولا سيّما الشخصيّة واللغة. السرد: أنواعه، وعلاقته بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى ـ ولا سيّما المكان والزمان ـ من جهةٍ، وعلاقته بالضمير من جـهةٍ أخرى.

الحوار: الداخليّ والخارجيّ، وعلاقة كلّ منهما بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى، ولا سيّما الشخصيّة.

الوصف: علاقته بالعناصر الأخرى، ولا سيّما المكان، ووظائفه. المكان الحقيقيّ ـ الواقعيّ. المكان الفنّيّ ـ الافتراضيّ. تتابع المكان أو تقطّعه أو تعدّده أو انعدامه. الحسّ المكانيّ لدى الكاتب. علاقة المكان بالعناصر الفنّيّة الأخرى ـ ولا سيّما الشخصيّة ـ من جهة، وعلاقته بالزمان من جهة أخرى. الفضاء الجغرافيّ. قيمة المكان ومظاهره ودلالته الرمزيّة أو الواقعيّة أو الرومانسيّة.. الزمان الحقيقيّ ـ الواقعيّ. الزمان الفنّيّ ـ الافتراضيّ. تتابع الزمان أو تقطّعه أو انعدامه. الحسّ الزمنيّ لدى الكاتب. علاقة الزمان بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى ـ ولا سيّما الحبكة ـ من جهة، وعلاقته بالمكان من جهة أخرى..

مستويات البيئة
ومن هنا يتردّد في صور شتّى مصطلح البيئة غير مرّة في كتابات الواقعيين، ولا سيّما الواقعيين الطبيعيين منهم، حتّى إنّ أكبر نقّادهم في القرن التاسع عشر – وهو الفرنسيّ غوستاف بلانش Gostaf Blanche – كان يقصد صراحةً بالواقعيّة Realism " اللون المحليّ، أي: التفاصيل المستمدّة من البيئة المحليّة، لتعطي الانطباع بالواقعيّة وصدق التعبير " ، ثمّ نجد إنجلز Angles يستعمل مصطلح البيئة في إحدى رسائله ، وبعد زمن سيشيع هذا المصطلح ومرادفاته المتعدّدة في كتاباتهم، وسيغدو واضح المعالم والحدود. والواقعيّ يخلص للبيئة، ولا يحيد عنها، وهو متأثّر بها دوماً لا مصوّر لها، لا يعنى البتّة بالتسجيل الدقيق لمعالم البيئة وحدودها، ولا يُشغل عن نفسه بمظاهرها الخارجيّة، وإنّما يجد واقعيّة البيئة في العمق لا في السطح، ويراها انعكاساً للوعي والمُثل، لأنّها في الأساس جذوره وملامحه وانتماؤه الحقيقيّ، تؤثّر في تكوينه الفكريّ والاجتماعيّ والنفسيّ، وتسهم في رسم شخصيّاته وتحديد معالمها ورصد حركاتها.. والقصّة بلا بيئة نصّ في العراء أو وجه بلا ملامح ولا أسارير، والقاصّ أيّ قاصّ لا يمكنه إلاّ أن يتفاعل مع بيئته المحليّة، مهما كان زمانها قصيراً ومكانها ضيّقاً.

- الزمان والمكان Time and Place:
إنّ للقصّة القصيرة زماناً ومكاناً مفترضين أو تخييليّين، يتتابعان في مجرى الأحداث، ويتوازيان كخطّين، فلا يمكن لأحدهما أن يستقلّ عن الآخر، لأنّهما وليدا واقعة، لا تجري في فراغ. والدكتورة نبيلة إبراهيم تتحدّث عن تجربة الإنسان مع الزمان والمكان، فترى أنّها " تعتمد إلى حدّ كبير على ميل الحسّ الإنسانيّ نحو الزمان أو المكان، فإذا كان الإنسان أكثر ميلاً لمراقبة الأشياء في حركة الزمن المستمرّة... فإنّنا نتحدّث عن الحسّ الزمنيّ عند الكاتب، أي: إنّ الكاتب واقع تحت ضغط الإحساس بالزمن، والزمن في هذه الحالة إمّا أن يُصوّر على أنّه تيّار مائيّ متدفّق، يجرف أمامه كلّ شيء، أو يُصوّر على أنّه الحاضر الدائم الذي يستدعي الماضي تارةً والمستقبل تارةً أخرى... وإذا مال الكاتب إلى إيقاف حركة الزمن، ليعايش الأشياء في امتداداتها المكانيّة وعلاقتها بالأشياء الأخرى المتجاورة وغير المتجاورة من ناحية ثمّ بموقف الكاتب النفسيّ من ناحية أخرى، فإنّنا نتحدّث عن معايشته للامتداد المكانيّ " . من هنا يبدو أن شكل القصّة القصيرة رهين زمان ومكان محدودين، فإذا ما تتابعا على نحو منطقيّ كان شكل القصّة تقليديّاً، وإذا تتابعا على نحو غير منطقيّ تولّدت أشكالٌ من القصّة جديدةٌ.

أ – التتابع المنطقيّ أو السببيّ Logical sequence: ينهض على حتميّة منطقيّة واضحة، تقود فيها المقدّمات إلى النتائج ، و" يعتمد على النموّ التدريجيّ المتسلسل في العمل القصصيّ سواء أكان هذا النموّ التدريجيّ المتسلسل للشخصيّة أم للحدث أم للغة مع تتابع الزمان والمكان في خطّ تدريجيّ، فالزمان يبدأ من الماضي ثمّ الحاضر فالمستقبل، والمكان ينتقل من موضع طبيعيّ إلى آخر متناسباً طرديّاً مع الزمان، لأنّ التتابع الزمنيّ يحدث بدوره تتابعاً للمكان في اتّجاه واحد " ، وعندئذٍ تؤدّي مختلف العناصر الفنّيّة دورها على نحو طبيعيّ، تحكمه وحدة الزمان ووحدة الموضوع. ومع هذا التتابع يشعر القارئ بالقدرة على التنبّؤ بالتطوّرات المقبلة، وهو شعور قد يتحقّق في بعض الأحيان، وقد يؤدّي إلى عكس ما يتوقّعه في بعضها الآخر. وهذا التتابع يتجلّى بوضوح في القصص التقليديّة والواقعيّة، ولا سيّما قصص عبد السلام العجيليّ، ومحمّد المرّ، ونجيب محفوظ، ومحمّد نور الدين..

ب – التتابع غير المنطقيّ أو الكيفي Illogical sequence : لا تجري فيه الأحداث على نحو موضوعيّ، ولا تتتابع تتابعاً طبيعيّاً، بل تعكس حالةً من التداخل الديناميكيّ، يتداعى فيه الزمن الماضي في لحظة الحاضر، ويتراءى المستقبل حلماً أو هاجساً، وهذا ( الاسترجاع Analepsis ) و( الاستشراف Exaltation ) على حدّ تعبير جيرار جينيت Gerard Genette يتطلّب قيماً إيحائيّةً ودلالاتٍ موحيةً.. والكاتب عندئذ " لا يعنيه البناء التقليديّ بقدر ما يعنيه إبراز القيمة الكيفيّة للصورة والمشاهد القصصيّة وتراصّها في نسيج كلّيّ موحّد، فنهاية قصصه دائماً تبدأ من نقطة الحركة، وتنتهي إلى نقطة السكون " . وأكثر ما تجلّى هذا النوع من التتابع في قصص الهواجس والأحلام وقصص تيار الوعي، ولا سيّما قصص وليد إخلاصي، ويحيى الطاهر عبد اللّه، وهاني الراهب، وعبد الحليم يوسف.

المستقبل................ المستقبل




الماضي............ الحاضر الماضي ............. الحاضر

التتابع المنطقي.............. التتابع غير المنطقيّ

فالزمان والمكان يحدّدان شكل القصّة القصيرة، ويعملان على إبراز البيئة القصصيّة، ولكنّ بعض الكتّاب – ولا سيّما في تجاربهم الأولى – قد يديرون ظهورهم للزمان والمكان، ويلحّون على قصص بلا زمان ولا مكان قصصيّين، وكأنّها قصص إنسانيّة عامّة، يمكن أن تدور في كلّ زمان وكلّ مكان، وهو ما يترك القصّة بلا ملامح ولا أسارير، تقف على قدم واحدة، أو تسير على عجلة واحدة، أي: يتركها بلا هويّة خاصّة، لا يمكن أن تتحدّد إلاّ إذا انتسبت إلى زمان ومكان محدّدين، قد يكونان مفترضين أو تخييليّين شديدي الصلة بالواقع. ومن هؤلاء: شيخة الناخي، ومحمّد المخزنجي، ودريد يحيى الخواجة.

- الشخصيّة Character:
لكلّ شخصيّة من الشخصيّات القصصيّة ظروفها الاجتماعيّة وملامحها الشخصيّة والنفسيّة، ولها مستوى من اللغة والفكر محدّدٌ، وليس من الضروريّ أن يحرص القاصّ على إبراز هذه الأبعاد كلّها ، لأنّ القصّة القصيرة هي فنّ الفرد لا فنّ المجتمع كالرواية، وهذه الأبعاد لا تجتمع معاً إلاّ في علاقة ( هذا ) مع ( هؤلاء )، وهي في القصّة القصيرة علاقة محدودة، وربّما هي علاقة عابرة. ومن هنا لا تدور أحداثها إلاّ حول شخصيّة رئيسة Main character ، يحدّد اتّجاه سلوكها ومواقفها نوازع وصفات مسيطرة، وتخدم دورها الفنّيّ شخصيّات ثانويّة Sub-by characters، قد لا تحرّك حدثاً، وقد لا تثير دافعاً، ولكنّ علاقاتها معها تفضي إلى موضوع Theme، يتألّف من وحدات موضوعيّة كبرى، وكلّ وحدة منها تتألّف من وحدات موضوعيّة صغرى، هي الجمل التي يتألّف منها القصّ، ويتضمّن كلٌّ منها حافزاً Motive خاصّاً بها . وكلّما كان عدد الشخصيّات الثانويّة في القصّة محدوداً كان دورها أكثر تأثيراً، و" كقاعدة عامّة إذا كنت تستطيع أن تورد القصّة القصيرة بشخصيّة ثانويّة واحدة، فلا تستعمل اثنتين، وإذا كنت تستطيع أن توردها باثنتين فلا تستعمل ثلاثةً " .

والشخصيّة في القصّة القصيرة ليست حقيقيّةً تماماً، ولكنّها تشبه الشخصيّة الحقيقيّة من حيث المشاعر والانفعالات ومن حيث المظاهر والعلاقات، بل يمكن أن نقول:" إنّ الشخصيّات في قصّة ما هي كائنات بشريّة، أو تبدو أنّها كذلك " ، وكلّما حاول الكاتب أن يربط شخصيّاته بالحياة نأت عنها، وتحوّلت إلى شخصيّات حكائيّة خياليّة، لا صلة لها بالواقع العيانيّ ولا رابط.. أي: هي - على حدّ تعبير أوستن وارين Warren Austin - شخصيّات نموذجيّة Model characters، وهو يشير إلى مبدأ خلق الشخصيّات في الأدب قائلاً: " إنّه مزج النموذج مع الفرد لإظهار النموذج في الفرد أو الفرد في النموذج. والشخصيّة التي هي فرد بقدر ما هي نموذج ألّفت بحيث تظهر أنّها نماذج متعدّدة، فهاملت: عاشق أو عاشق سابق، وبحّاثة، وخبير بالدراما، ومبارز حاذق.. كلّ إنسان ملتقى للنماذج وصلة بينها " .

وهكذا تدخل هذه الكائنات النموذجيّة دنيا القصّة قسراً كما يدخل الوليد الدنيا، و" تصل مشحونةً بروح التمرّد، ولمّا كانت تمتلك تلك المتوازيات الكثيرة مع أناس مثلنا، فإنّها تحاول أن تعيش حياتها الخاصّة، ومن ثمّ تُشغل في النتيجة بخيانة مشروع الكتاب، تفرّ، وتنزلق من الأيدي، لأنّها ابتكارات داخل ابتكار، تتنافر معه في الغالب " ، ولأنّها في النهاية شخصيّات حكائيّة لا حقيقيّة.

وثمّة قصص تأخذ شخصيّاتها من الواقع نفسه أو من التاريخ والتراث، ولكنّها عندما تلج باب القصّة تتلاشى ملامحها الأصليّة، وتنقطع صلتها بالماضي، وتغدو نماذجَ مجازيّةً: مقنعةً ومتساوقةً مع نفسها ومع محيطها من جهةٍ ومتطوّرةً ومتفاعلةً من جهة أخرى، يحمّلها الكاتب ما يحمّلها من الدلالات والرموز، إذ ليست القصّة نقلاً أميناً للأفكار، كما هي في الواقع والتاريخ، وإنّما هي " وسيلة لإحداث المواقف من الأفكار " . وهو ما فعله زكريّا تامر عندما أخرج طارق بن زياد من صفحات التاريخ في قصّة ( الذي أحرق السفن ) من مجموعته ( الرعد 23 )، وأنهض عمر المختار من قبره في قصّة ( الإعدام ) من مجموعته ( دمشق الحرائق 89 )، ثمّ حوّلهما إلى شخصيّات نموذجيّة، لا تعيش داخل عصرها فحسب، وإنّما تعيش خارجه أيضاً.

وللشخصيّة نوعان، هما على حدّ تقسيم إدوارد فورستر Forster Edouard:

- الشخصيّة المسطّحة أو البسيطة Simple character: وهي شخصيّة " كانت تُعرف في القرن السابع عشر بالشخصيّة الهزليّة، وكانت أحياناً تعرف بالنموذج وأحياناً بالكاريكاتير، وهي تُرسم في أنقى صيغها، وتدور حول فكرة أو خاصّة واحدة، وذلك عندما لا يتوافر فيها أكثر من عامل.. تميّزها عاطفة القارىء لا العين الباصرة، وتبقى ثابتةً في مخيّلته، لأنّها لا تتبدّل نتيجة الظروف، بل تتحرّك من خلال تلك الظروف التي تمنحها صفة استعادة حوادث الماضي " .

- الشخصيّة المغلقة أو المركّبة Complicated character: وهي شخصيّة، تبدو قيمتها في " قدرتها على الإدهاش والإقناع، فإن لم تدهش بتاتاً فهي مسطّحة، وإن لم تقنع فهي مسطّحة أيضاً " .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 3:37

- وجهة النظر Point of view:
ينطلق السارد – سواء أ كان سارداً ذاتيّاً أم موضوعيّاً، أو كان سارداً عليماً أم محدود العلم - من زاوية أو موقع محدّد من الأحداث، يمكّن البطل Hero – وهو الشخصيّة الرئيسة أو الحاسمة Psychological character في القصّة القصيرة – من رؤية مختلف جوانب القصّة والتفاعل مع أحداثها وشخصيّاتها، وكأنّ هذا الموقع أحد أركانها، أو كأنّه البطل نفسه في سعيه إلى بلوغ غايته، لأنّ ما يحدث هو في الأساس من أجله هو، ولأنّ المشكلة في الواقع هي مشكلته هو. وفي القصّة القصيرة الحديثة " تغيّر مفهوم البطل ووظيفته، وأصبح شخصيّةً عامّةً، لم يعد لها الحضور الكامل من خلال تميّز صوتها بين الأصوات أو من خلال تحكّمها في جميع الأصوات عند تجمّعها حول وجهة نظر محدّدة " ، أيّ: إنّ الشخصيّة الرئيسة لا تقتصر بالضرورة على الشخصيّة ذات الملامح الصارمة والنفس الأبيّة والكلمة العليا.. وإنّما يمكن لها أن تكون شخصيّةً ضعيفةً مثيرةً للشفقة، تتبنى وجهة نظر واقعيّة لا مثاليّة، أو أن تكون شخصيّةً هزيلةً مثيرةً للضحك، تتبنى وجهة نظر ناقدة لا مجاملة.. وفي كلّ الأحوال تتجلّى وجهة النظر أساساً في سلوك الشخصيّة وفي طريقة تفكيرها وتعبيرها عن نفسها وفي رؤيتها العالمَ، لأنّها اللسان الناطق بالموقف الأيديولوجيّ لهذه القصّة أو تلك، وربّما تعدّدت وجهة النظر بتعدّد الشخصيّات الرئيسة في القصّة القصيرة، وأكثر ما يبدو ذلك في الرواية، لأنّ فضاءها أرحب وشخصيّاتها أكثر.

ومن أجل علاقة وثيقة بين القارئ والنصّ ينصح الأمريكيّ ولسن ثورنلي Wilson Thornley القاصّ أن يحسن اختيار وجهة نظره، فلا يغيّرها، ولا يحرفها عن وجهتها، وأن يسلك أفضل السبل لإيصالها إلى القارئ.. ويرى أنّ لوجهة النظر ميزاتٍ، هي: ( أ ) الذاتيّة، وكأنّ القصّة اعتراف حقيقيّ، و( ب ) الموضوعيّة، وكأنّها حقيقيّة، و( ج ) كليّة، وكأنّها نظرة شاملة Weltanschauung . فإذا ما كانت وجهة النظر ذاتيّةً جنحت بالسرد الذاتيّ Subjective narration إلى القصص الرومانسيّة Romanticism، وكان الراوي هو الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة غالباً، يصوّر الأحداث بضمير المتكلّم من الداخل تصويراً ذاتيّاً ( الرؤية الداخليّة Internal sight )، وإذا ما كانت موضوعيّةً مالت بالسرد الموضوعيّ Objective narration إلى القصص الواقعيّة Realism، وكان الراوي موضوعيّاً، يصف الأحداث بضمير الغائب من الخارج وصفاً محايداً كما يراها هو ( الرؤية الخارجيّة External sight )، أو كما يستنبطها من أذهان أبطاله ونفوسهم، ولكنّ وجهة النظر في كلتا الحالين تبقى كليّةً، لا تنظر إلى الحياة من ثقب الباب، ولا تراها بعين واحدة، وإنّما تشرف عليها إشرافاً شاملاً.

إنّ أوّل من طرح مصطلح ( وجهة النظر ) هو الروائيّ الأمريكيّ هنري جيمس Henry James الذي حاول إيجاد مركزCenter أو بؤرة Focus سرديّة لرواياته وقصصه لتفادي تفكّكها، فاستطاع ببصيرته النقديّة الثاقبة أن يبلور مفهومه عن وجهة النظر في الفترة بين 1907 – 1909 في مقدّمات رواياته ، ومنذ ذلك التاريخ حظيت وجهة النظر باهتمام أهل النقد، وخضعت لتطوّرات كبيرة، وأخذت أسماء متعدّدةً، منها: الرؤية، والمركز، والمجال، والمنظور، وبؤرة السرد، وزاوية النظر، والموقف الأيديولوجيّ.. ولكنّ مصطلح وجهة النظر ظلّ هو الأكثر ذيوعاً وانتشاراً.

ففي عام 1943 اقترح كلينث بروكس Cleanth Brooks وروبرت بن وارين Robert Penn Warren في كتابهما ( استيعاب الرواية Understanding fiction ) مصطلح بؤرة السرد Focus of narration معادلاً لوجهة النظر، جعل جيرار جينيت Gerard Genette يتبنّى مصطلح التبئير الذي يتجاوب مع تعبير بروكس ووارين، وسمّى الحكاية الكلاسيّة اسماً جديداً هو الحكاية غير المُبأرة Nonfocalized أو ذات التبئير الصفر Zero focalized أو اللاتبئير Nonfocalization ، وأطلق على حكايات الألغاز والمغامرات حيث لا يسمح لنا البطل بمعرفة أفكاره وعواطفه اسم الحكاية ذات التبئير الخارجيّ External focalization، ودعا سوى ذلك من الحكايات – ولا سيّما الحكاية ذات المنولوج الداخليّ - بالحكاية ذات التبئير الداخليّ Internal focalization ، سواء أكان: ( أ ) ثابتاً في الشخصيّة ( ب ) أم متغيّراً من شخصيّة إلى أخرى ( ج ) أم متعدّداً حسب عدد الشخصيّات، ثمّ نبّه جينيت إلى أنّ التبئير لا ينصبّ دائماً على العمل الأدبيّ كلّه بل على قسم سرديّ محدّد، يمكن أن يكون قصيراً جدّاً، وأنّ التمييز بين وجهات النظر ليس دائماً بالوضوح الذي قد يمكن أن يوهم به تناول هذا النوع أو سواه من أنواع التبئير، فقد يكون التبئير الخارجيّ على شخصيّة داخليّاً على شخصيّة أخرى .. ولكنّ جينيت نفسه سرعان ما تخلّى عن مصطلح التبئير، ليعود من جديد إلى استخدام مصطلح وجهة النظر في مواضع كثيرة من كتابه ( خطاب الحكاية ).

ومن التطوّرات الأخرى لوجهة النظر ما رآه السوفييتيّ بوريس أوسبنسكي Boris usbensky في مطلع السبعينات في كتابه ( شعريّة التأليف A poetics of composition ) من تصوّر أشمل، هو ( المنظور السرديّ Narrative perspective ) الذي يشتمل على أربعة مستويات، تمثّل مواقع متعدّدة، يدار منها السرد، وهي:

1 - المستوى الأيديولوجيّ أو التقويميّ: وهو منظومة القيم العامّة لرؤية العالم ذهنيّاً من موقع أو أكثر، تتمدّد في تضاعيف النصّ، لتعبر عن وعي الراوي بصوت جهير، وهو يقود شخصيّاته، ويعلّق على الأحداث، ويتّخذ موقفاً محدّداً منها. ومن هنا قد تتعدّد الأصوات حين تحضر وجهات نظر متعدّدة في داخل النصّ. ومن الوسائل الخاصّة بالتعبير عن المستوى الإيديولوجيّ لوجهة النظر: إطلاق النعوت والألقاب.

2 - المستوى النفسيّ: وهو الزاوية التي يقدّم من خلالها الراوي حالة الشخصيّة النفسيّة ذات العلاقة بالأحداث والدوافع التي تحكم أفعالها.

3 - المستوى التعبيريّ أو اللغويّ: وهو الأسلوب الذي يعبّر به الراوي عن نفسه، ومن خلال تحليل خصائص هذا الأسلوب يمكن تحديد رؤيته ووجهة نظره، كما يمكن تحديد وجهات نظر شخصيّاته وسرودها.

4 - المستوى الزمانيّ والمكانيّ: وهو يسهم في تحديد زمان المنظور ومكانه، ويساعد في التركيز على موقع الراوي وحضور شخصيّاته في لحظة وجغرافيّة محدّدتين. وقد يتطابق موقعه مع موقعها، وكأنّه يقوم بالسرد من النقطة التي تقف فيها، فيتبنّى مؤقّتاً أنظمتها الأيديولوجيّة والتعبيريّة والنفسيّة .

- الحبكةPlot :
هي حركة الحدث Action المتتابعة من بداية القصّة إلى نهايتها، هي صعود الشخصيّة سفحَ القصّة وارتقاؤها قمةَ الأحداث المعقّدة ثمّ هبوطها إلى حلّ أو نتيجة، هي نسج محكم بين يدي نسّاج ماهر، يشدّ حُبَكه جيّداً، ويحسن تدبيرها وفكاكها، قال ابن منظور: " الحَبْك الشدّ.. والحُبْكة الحبل يشدّ به على الوسط، والتحبيك التوثيق، وقد حبّكت العقدة، أي: وثّقتها.. وروي عن ابن عبّاس في قوله تعالى:  والسماءِ ذاتِ الحُبُكِ  : الخَلْق الحسن.. والمحبوك المحكم الخلق من حبكتُ الثوب إذا أحكمت نسجه " .

في خطواته المتصاعدة ينتهي الحدث إلى ذروة التأزّم، وهي العقدة Climax، فيثير في نفس القارئ أقصى درجات التوتّر، وفي انحداره وهبوطه يخفّف الحدث من حدّة التوتّر، ويبعث في النفس شيئاً من الراحة والانفراج.. فالعقدة بهذا المعنى هي لحظة تشابك الأحداث وتأزّمها. ولا شكّ في أنّ في كلّ عقدة صراعاً Conflict مؤثّراً لا مفتعلاً، يعتلج في نفس الشخصيّة، أو يشتعل في محيطها القصصيّ، ويجعلنا نحسّ بمغزى القصّة ومجراها وحرارتها، ويعمل على تطوير الحدث ونموّه، وهو:

صراع داخليّ Interior conflict: يعتمل في نفس الشخصيّة من الداخل كالصراع الذي يشتعل في نفسها بين ( الإقدام ) و( الإحجام )، بين ( الشرّ ) و( الخير )، بين ( الفعل ) و(ردّ الفعل ) بين ( الغفلة ) و( اليقظة ).. ومنه ما اختلج في نفس الأب من مشاعر جيّاشة في قصّة ( أنامل على الأسلاك ) لشيخة الناخي، ذلك الأب الذي تمزّق بين ابنته من زوجته الأولى التي هجرها وبين زوجته الجديدة: " انتابته حيرة، ماذا يعمل الآن ؟ أحسّ في تلك اللحظة بالذات بمدى القسوة التي ارتكبها بحقّها وحقّ أمّها دونما سبب، تطلّع حوله، كلّ شيء أمامه لم يعد يسعده: البيت، زوجته.. ماذا يفعل ؟ أخذت الأفكار تلحّ عليه، وشعر بوحدة غريبة، وبدأ وعيه يستيقظ من سبات عميق، لا بدّ من اتّخاذ القرار الصائب " .

وصراع خارجيّ External conflict: يدور في محيط الشخصيّة وبيئتها كالصراع بين (الإنسان ) و( البحر )، بين ( شخصيّة رئيسة ) و( أخرى ثانويّة )، بين ( أخيار ) و( أشرار )، بين ( عبد ) و( سيّد )، بين ( ظالم ) و( مظلوم ).. ومنه الصراع بين الغربان وأهل الجزيرة في قصّة ( مناقير ) لإبراهيم مبارك من مجموعته ( عصفور الثلج ) ، وبين النمر والمروّض في قصّة ( النمور في اليوم العاشر ) لزكريّا تامر من مجموعته ( النمور في اليوم العاشر ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 3:41

عناصر الحبكة

- البداية Introduction، والنهاية Conclusion:

إنّ بداية القصّة القصيرة هي بوّابتها، يلج القارئ منها إلى معرفة الأحداث والشخصيّات، فلا بدّ أن تكون شائقةً ومتماسكةً، تشدّه إليها، وتثير اهتمامه، وكأنّها جزء من حياته الشخصيّة. هي ليست وصفاً بليغاً ولا إنشاءً صُراحاً، وإنّما هي حدث، يتشظّى، ويتفرّع، فلا يذر مجالاً لأيّ مقدّمة ولا بلاغة، قد تخنق القصّة في مهدها، فالبداية إذن تحدّد نجاح القصّة أو إخفاقها، لأنّها هي المفتاح، وهي الصفحة الأولى من القصّة.

أمّا النهاية، فلا تقلّ أهميّةً عن البداية، لأنّها ليست مجرّد خاتمة، وإنّما هي ( لحظة تنوير Lightening )، تحدّد معنى الحدث Action، وتكشف عن دوافعه وحوافزه، وتثير في مخيّلة القارئ ما تثير من الصور والمشاعر والانفعالات.. فينبغي أن تنتهي القصّة نهايةً محكمةً، تنهض ببنائها الفنّيّ في حلّ العقدة التي يترقّبها القارئ، فلا تترك مجالاً لثغرات ولا لأحداث جديدة. والنهاية في القصّة القصيرة على شكلين:

أ – النهاية المغلقةEnd: وهي النهاية التي تصل إلى حلّ Denouement، يتناسب وأحداث القصّة من بدايتها. وعلى هذا الشكل تجريّ القصص التقليديّة، ولا سيّما قصص محمود تيمور، وعبد السلام العجيليّ، ويوسف إدريس.. ومنها أن تنتهي القصّة بحادث مأساويّ بعد صراع مرير، أو بالزواج بعد تجربة حبّ، أو باللقاء بعد فراق طويل..

ب –النهاية المفتوحة Run on end: يترك هذا النوع من النهايات مجالاً لتصوّرات القارئ وتخيّلاته، يخلص من خلالها إلى نهاية مناسبة، تتوافق من جهةٍ مع مواقفه الفكريّة من الحياة، وتتلاءم من جهةٍ أخرى مع منطق الحياة وأحداثها ومشاكلها المختلفة، وكأنّ القارئ هو المؤلّف الآخر للقصّة. وعلى هذا الشكل تجري أغلب القصص الجديدة، ولا سيّما قصص خطيب بدلة، ونجم الدين سمّان، وعبد الحليم يوسف.. ومن هذه النهايات التي تبقى مفتوحةً على احتمالات متعدّدة نقرأ في مجموعة ( الرحيل ) لشيخة الناخي هذا السؤال الذي ظلّ عالقاً بلا إجابة في قصّة ( الرحيل ): " أصحيح هو عازم على الرحيل ؟ " ، وهذا العطف الذي ظلّ بلامعطوفٍ جملةٍ ولامعطوفٍ مفردٍ في قصّة ( أنامل على الأسلاك ): " التفت، لتلتقي نظراته بمن تقف ذاهلةً، وقد استغرقتها المفاجأة، و… " ، وهذا الحرف الناسخ الذي ظلّ بلاخبرٍ مفردٍ ولاخبرٍ جملةٍ في قصّة ( من زوايا الذاكرة ): " بدأ يبتعد شيئاً فشيئاً عبر مرآة سيّارتي إلى أن توارى عن ناظري، واختفى، لتبقى صورته ماثلةً في مخيّلتي. إنّه.. " .

وأهل النقد يختلفون في قيمة البداية والنهاية، فبعضهم يرى أنّ البداية والنهاية هما كلّ شيء في القصّة القصيرة، ومنهم سدكويك Sedgwick الذي ذهب إلى " أنّ القصّة القصيرة تشبه سباق الخيل، أهمّ ما فيها هو البداية والنهاية " ، وبعضهم الآخر يجد أنّهما لا تهمّان هذا الفنّ القصير، ومنهم تشيخوف Chekhov الذي قرّر " أنّ القصّة القصيرة يجب ألاّ تكون لها بداية أو نهاية " .

- الحدث Action :

هو الفعل الذي تقوم به الشخصيّة داخل القصّة، وهو محورها وعنصرها الرئيس الذي ينمّي المواقف، ويحرّك الشخصيّات، ويجري الحوار على ألسنتها.. ولمّا كان القاصّ يستمدّ أحداثه من الحياة المحيطة به، لتكون مشاكلةً للواقع نفسه إلى حدّ ما، كان لا بدّ له من اختيار هذه الأحداث وتنسيقها، لتجري من جهةٍ في زمان ومكان محدّدين وملائمين، ولتضمن من جهةٍ أخرى عنصر التشويق ولحظة تنوير مؤثّرة.

و" تطوّر الحدث لا يقتصر على كيفيّة وقوعه ومكانه وزمانه، بل يمتدّ، ليشمل السبب الكامن وراء وقوعه، وهو ما يفرض على الأديب البحث عن هذا الدافع وتجسيده، حتّى يبرز الأساس الذي أقام عليه قصّته. وهذا الدافع يكمن في الشخصيّات التي فعلت الحدث، أو تأثّرت به، إذ إنّه لا يمكن تخيّل دافع دون بشر معينين، وهو ما يفرض التوحّد بين طبيعة الدافع وطبيعة الشخصيّة المتحركّة به أو المحرّكة له، ولذلك يستحيل الفصل بين الحدث والشخصيّة، فالشخصيّة هي الحدث عندما تعمل، وإذا وصف الأديب الفعل دون الفاعل، فإنّه يخرج من مجال البناء القصصيّ إلى ميدان السرد الخبريّ " . والقصّة الجديدة لم تعد حدثاً فحسب، وإنّما يمكن أيضاً أن تدور حول فكرة أو مشهد أو حالة نفسيّة أو لمحة من ملامح الحياة.

- اللغة Language:

هي النسيج الذي يشتمل على السرد والحوار، ويساهم في رسم الشخصيّات وتصوير الأحداث وتطويرها، فإذا كان للشعر لغته، فإنّ للقصّة القصيرة لغتها التي تأخذ من النثر قدرته على التعبير والتصوير ومن الشعر طاقته على الإيحاء والإيجاز، وكأنّها تحتلّ المسافة الفاصلة بين الشعر والنثر، وتمزج بين ما هو واقعيّ وعقليّ ومنطقيّ وبين ما هو خياليّ وعاطفيّ ومثاليّ.. وهي لذلك تحمل عبئاً ثقيلاً، وتفيض بالدلالات والإيحاءات، حتّى تكون قادرةً على التوصيل واستحواز القارئ والإمساك بالموقف كلّه.

أوّلاً – السرد Narration:

هو قصّ الحدث واقتفاؤه سواء أكان حقيقيّاً أم متخيّلاً، يحيله السارد – وهو هنا الراوي أو الحاكي – بطريقة من الطرق السرد وأنماطه نصّاً أو جنساً أدبيّاً، والسرد في اللغة: الكلام المتتابع المتّسق، قال ابن منظور: " سرد الحديث ونحوه يسرُده سَرْداُ إذا تابعه، وكان جيّد السياق له، والسَّرْد المتتابع ، والسرد الخرز في الأديم.. وسردها نسجها، وهو تداخل الحَلَق بعضِها في بعض " .
وللسرد أنواع من حيث: ( أ ) علاقته بالموضوع من طرفٍ، ( ب ) وعلاقته بالضمير من طرفٍ آخر، ( ج ) وعلاقته بالزمان من طرفٍ ثالث. وهنا سنحاول أن نستعرض كلاً من هذه العلاقات الثلاث:

( أ ) السرد والموضوع: يميّز الدكتور عبد اللّه أبو هيف في كتابه ( القصّة العربيّة الحديثة والغرب ) بين خمسة أنواع من السرد، هي:

1 - السرد الأدبيّ: وهو السرد القصصيّ الذي يستفيد من معطيات غير سرديّة كالشعر والمثل والمقامة وسواها من الموروث الأدبيّ، ويمثّل هذا النوع إميل حبيبيّ الذي اغتنى بهذا الموروث، فقدّم أشكالاً من القصّ مختلفةً في ( الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ) و( سداسيّة الأيّام الستّة ).

2 - السرد الدينيّ: وهو السرد الذي يستعيد أسلوب ( السند ) في الحديث الشريف، ويمثّل هذا النوع محمود المسعديّ في ( حدّث أبو هريرة قال ).

3 – السرد التاريخيّ: وهو سرد يأخذ من كتب التاريخ أحداثها وأخبارها، ويحفل بلغتها وأسلوبها السرديّ.. وجمال الغيطانيّ هو أشهر مَن عُني بأساليب السرد التاريخيّ، ولا سيّما أسلوب المؤرّخين في العصر المملوكيّ بدءاً من مجموعته ( أوراق شابّ عاش منذ ألف عام )، ويلاحظ في أغلب قصصه ورواياته " طريقة المؤرّخ العربيّ في سرد الوقائع وتقطيعها ولغتها وحكائيّتها المباشرة للشخصيّات والأحداث والتركيز على وصف اللحظة التاريخيّة بنظرة الشاهد والخبير بما جرى وتدخّل الراوي في الشرح وطريقته في الدعاء وذكر الأصل والنسب وإيراد الحواشي وتضمين الوقائع التاريخيّة أو الرواية على منوالها وذكر الشعر والاعتماد على بعض الأخبار على سبيل التوليف " .

4 – السرد الصوفيّ: وهو سرد أفاد من مصطلحات المتصوّفة ومفرداتهم ولغتهم اللمّاحة وأشواقهم الغامضة.. وربّما استدعى شخصيّاتهم، واكتنه مواقفهم الحياتيّة والوجوديّة والسياسيّة، " فينكسر السرد بعناصر غير واقعيّة، وتتغلّب النجوى الذاتيّة على حوار التاريخ، وينتشل القاصّ الواقعة من براثن الرؤى المجنّحة والمعاني المبهجة والكشف اللانهائيّ لأبعاد الفعل الإنسانيّ الذي غالباً ما يتداخل مع لغة الإشارة واللمح " ، وهو ما فعله نجيب محفوظ في ( أصداء السيرة الذاتيّة )، وجمعة اللاميّ في ( اليشن ) و( الثلاثيّات ).

5 – السرد الفولكلوريّ أو الشعبيّ:[/color] وهو السرد الذي يستفيد من الموروث الحكائيّ العربيّ وأساليبه وتقنيّاته من سيرة أو حكاية أو أسطورة أو نادرة.. ويردّ بعض الباحثين تطوّر القصّة العربيّة الحديثة منذ أوائل القرن الماضي إلى هذا الموروث الذي استلهمه الخيال العربيّ، وراح يجاريه، ومن كتّاب هذا الاتّجاه المعاصرين: زكريّا تامر، وإميل حبيبي، وغسّان كنفاني..

( ب ) السرد والضمير: هي علاقة شكليّة، تكشف عن أشكالٍ من السرد ثلاثةٍ، فإذا استخدم القاصّ هذا الضمير أو ذاك حدّد شكل السرد ونمطه:

1 - يسرد القاصّ أحداث قصّته بضمير المتكلّم، وكأنّه هو البطل، أو كأنّ القصّة هي تجربته الشخصيّة، وينظر إلى الشخصيّات الأخرى بحسب وجهة نظره هو لا حسب ظروفها ومشاعرها، وذلك على طريقة الترجمة الذاتيّة Biography، وهذا الضمير لا يجعل القصّة عندئذٍ سيرةً ذاتيّةً Autobiography، بل يسبغ عليها ما يسمّى بـ ( شعريّة Poetics النثر )، لأنّ الكتابة به هي خاصّية اللغة الشعريّة التي ليست مسألةً شكليّةً فحسب، وإنّما هي أيضاً مسألة رؤية للعالم من وجهة نظر ذاتيّة، ومن هذا الأسلوب: ( المذكّرات Memos )، و( اليوميّات Diary )، و( الرسائل Epistles )، و( الأحلام Dreams )، و( التداعيّات Recalling the past )، و( المونولوج Monologue ).. وهو ما يسمّى أيضاً بـ ( السرد غير المباشر ). والأمثلة على هذا النوع من السرد الذاتي Subjective narration قليلة، ولعلّ القاصّ السوريّ خطيب بدلة هو من أبرع القاصّين الذين استفادوا من تقنيّات هذا النوع من السرد وأنماطه، حتّى غدا اسمه أو كنيته – وهو أبو مرداس – جزءاً من لحمة القصّة، وصارت تجربته الشخصيّة مصدراً مهمّاً من مصادر تجربته القصصيّة، ففي قصّة ( الكاتب والشرطيّ ) نقرأ: " عندما استقلت من وظيفتي، واحترفت الكتابة، صار كلّ من يلتقيني من معارفي يسألني: صحيح – أخي أبو مرداس – أنّك تركت الوظيفة ؟ فأقول: أي، واللّه " .

2 – ويسرد القاصّ أحداث قصّته بضمير الغائب، وكأنّه الشاهد المحايد، ويصف الأحداث وصفاً موضوعيّاً، كما يراها، أو كما يستنبطها من أذهان أبطاله، وهي الطريقة الأرحب والأكثر شيوعاً.. وهي ما تسمّى بـ ( السرد المباشر ). والأمثلة على هذا النوع من السرد الموضوعيّ Objective narration كثيرة، ومنه هذه المقدّمة لقصّة محمّد نور الدين ( عينان ضاحكتان ): " عندما انهار جبل الجليد السامق الذي كان يحتلّ صدره حتّى نياط قلبه، لم يكن بسبب اشتداد الحرارة الناتجة عن زيادة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ، ولم يكن كذلك بسبب انهيارات أرضيّة تحت الجبل، لكنّه انهار فجأةً عندما هوى كلّ كيانه في أعماق عينين زرقاوين.. " ، فالضمير في القصّة غائب بل مستتر من أوّل القصّة إلى نهايتها، لا نعرف صاحبه، وكأنّ العلاقة في هذه القصّة بين ( هو ) و( هي )، وهي علاقة رومانسيّة جميلة بين زوجين، لا نشعر البتّة بالحاجة إلى معرفة اسميهما.

3 - ونادراً ما يسرد القاصّ أحداث قصّته بضمير المخاطب، وكأنّه يقود الشخصيّة إلى الحدث والصراع، ويقرّر مصيرها، ويدلّ هذا النوع من السرد الخطابيّ Narrating speechعلى علاقة حميمة بين القاصّ وشخصيّاته، فيرفق بها، ويتعطّف عليها.. ومن هنا يكشف استخدام ضمير المخاطب ( أنت ) عن انفعالات الـ ( أنا ) ومشاعرها وعُقدها، بل يزيدها بروزاً ومثولاً بين يدي القارىء، ولكنّ ضمير الـ ( أنت ) يظلّ يحتفظ بشخصيّته المتميّزة وملامحها الخاصّة. وهذا النوع من السرد قليل بل نادر في القصّة العربيّة القصيرة، جرّبت أن أستخدمه مرّةً في قصّتي ( هذيان )، فقلت مخاطباً بطلها، وهو عامل طُرد من عمله في مطعم بعد أبلى عمره في خدمته وخدمة زبائنه: " احذر أن تخنق آخر توهّج في نفسك، وترميه جانباً قرب تلك النفايات التي تزداد يوماً بعد آخر.. "، ثمّ جعلته يتحرّك بين يديّ كبيدق أو كلعبة من ألعاب مسرح العرائس.. " هيا اعبر جسر الماضي، لا تحاول استرجاع ملامحه. أسلحة الإنسان الأوّل لا تجدي في زمن سباق التسلّح النوويّ والنيترون وعابر القارّات.. هيّا اعبر، تقدّم، اقترب، توقّف. ها قد وصلت الحظيرةَ الرطبة، توقّف لحظةً قبل أن تدخل، وانظر إلى الشمس قليلاً، وانفض التعب عن عينيك، لعلّك تجد بعض العزاء " ، وهي تجربة طريفة وصعبة حقّاً، لم أجرؤ أن أجرّبها من جديد، لأنّها تحمل من عواقب السرد ما تحمل، ولأنّها في النهاية لا بدّ أن تجنح إلى شكل من أشكال السرد الذاتيّ ومزالقه.

السرد الذاتيّ ( بضمير المتكلّم ): القاصّ = الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة.



السرد الموضوعيّ ( بضمير الغائب ): القاصّ ≠ الراوي ≠ الشخصيّة الحكائيّة.



السرد الخطابيّ ( بضميرالمخاطب ): القاصّ = الراوي ≠ الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة.

معادلة السرد والضمير

( ج ) السرد والزمان: يميّز جيرار جينيت Gerard Genette من وجهة نظر الموقع الزمنيّ وحده بين أربعة أنواع من السرد ، هي:

1 – السرد اللاحق: وهو الموقع الكلاسيّ للحكاية بصيغة الماضي، هو سرد ينظم أغلب الحكايات.

2 – السرد السابق: وهو الحكاية التكهّنيّة بصيغة المستقبل عموماً، ولا شيء يمنع من إنجازها أيضاً بصيغة الحاضر، هو سرد قليل ونادر أكثر ما يبدو في حكايات الاستشراف والأحلام.

3 – السرد المتواقت أو المتزامن: وهو الحكاية بصيغة الحاضر المزامن للحدث، هو السرد الأكثر بساطةً مادام التزامن الدقيق بين القصّة والسرد يقصي كلّ نوع من التداخل واللعب الزمنيّ.

4 – السرد المُقحم: وهو ما يعترض لحظات الحدث نفسه، هو السرد الأكثر تعقيداُ مادام سرداً متعدّد المقامات، أي: هو سرد داخل سرد.

وللسارد عدّة وظائف، يجعلها جينيت حسب مختلف مظاهر الحكاية التي ترتبط بها في خمس ٍ، ينبغي على حدّ قوله ألاّ ننظر إليها على أنّها جامعة مانعة، لأنّ واحدة منها قد تستغرق مجمل الحدث في حكاية ما، ولكنّ تنوّعها دليل حريّة الراوي في أداء مهمّات متعدّدة، ترتفع بمكانة النص وقيمته، وهي:

1 – " أوّل هذه المظاهر هو القصّة، والوظيفة التي ترتبط به هي الوظيفة السرديّة المحضة التي لا يمكن لأيّ سارد أن يحيد عنها دون أن يفقد في الوقت نفسه صفة السارد التي يمكنه كثيراً أن يحاول أن يحصر فيها دوره ".

2 – " والثاني هو النصّ السرديّ الذي يمكن أن يرجع إليه السارد في خطاب لسانيّ واصف نوعاً ما ( سرديّ واصف في هذه الحالة )، ليبرز تمفصلاته وصلاته وتعالقاته، وباختصار: تنظيمه الداخليّ. ومنظِّماتُ الخطاب هذه تنتمي إلى وظيقة ثانية، يمكن أن نسمّيها وظيفة الإدارة ".

3 – " والمظهر الثالث هو الوضع السرديّ نفسه الذي محرّكاه هما: المسرود له الحاضر أو الغائب أو الضمنيّ، والسارد نفسه. فتوجّه السارد إلى المسرود له واهتمامه بإقامة صلة به بل حوار معه حقيقيّ أو تخييليّ أو الحفاظ عليه توافقه وظيفة تذكِّرُ في الوقت نفسه بوظيفة اللغة الانتباهيّة ( التحقّق من الاتصال ) والوظيفة الندائيّة ( التأثير في المرسل إليه ) عند جاكبسن Jakobson. وربّما علينا أن نسمّي الوظيفة التي يميلون إلى تفضيلها وظيفة تواصل ".

4 – " إنّ توجّه السارد نحو نفسه يحتّم وظيفةً مماثلةً جدّاً للوظيفة التي يسمّيها جاكبسون الوظيفة الانفعاليّة، إنّها تلك التي تتناول مشاركة السارد في القصّة التي يرويها، أي: تتناول العلاقة التي يقيمها معها، إنّها علاقة عاطفيّة حقّاً، ولكنّها أخلاقيّة وفكريّة، يمكن أن تتخذ شكل شهادة، كما هو الشأن عندما يشير السارد إلى المصدر الذي يستقي منه خبره أو درجة دقّة ذكرياته الخاصّة أو الأحاسيس التي تثيرها في نفسه مثل هذه الحادثة. وهذا شيء قد يمكن تسميته وظيفة البيّنة أو الشهادة ".

5 – " لكنّ تدخّلات السارد المباشرة أو غير المباشرة في القصّة تستطيع أيضاً أن تتخذ الشكل الأكثر تعليميّةً لتعليق مسموح به على العمل. وهنا يتأكّد ما يمكن تسميته وظيقة السارد الأيديولوجيّة ".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هند
مبدع مميز
مبدع مميز
هند


الجنس : انثى
الابراج : القوس
عدد الرسائل : 1352
المزاج : One day hero other days zero

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 3:47

والراوي أنواع، يحدّدها الفرنسيّ جان بويون J.Pouillon ومن بعده الروسيّ تزفتيان تودروف Tzvetan todorov حسب زاوية رؤيته والعلاقة بينه وبين الشخصيّة في ثلاثة أنواع :

1 - الراوي < الشخصيّة، أي: الراوي يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات التي تقوم بالأحداث دون أن تعلم شيئاً عن مصائرها المجهولة التي تنتظرها، لأنّها لا ترى إلاّ ما تقع عليه عيونها، فهي مخلوقات محدودة العلم والخبرة، تسيّرها قوّة الراوي العليم الذي تُكشف أمام عينيه الحجب. وهو ما يسمّيه بويون بـ ( الرؤية من الخلف )، وهي شبيهة لدى جينيت بالتبئير في درجة الصفر.

2 - الراوي = الشخصيّة، أي: الراوي يعرف ما تعرفه الشخصيّة، فإذا فعلت فعلاً، أو اتّصفت بصفة، فإنّه يُقدّم فعلها أو صفتها. وهو يأخذ شكلين، أحدهما أن يكون مشاركاً في الأحداث أو شاهداً عليها، والآخر أن يتّخذ من إحدى الشخصيّات أو من أكثر من شخصيّة مرايا تعكس الأحداث. وهو ما يسمّيها بويون بـ ( الرؤية مع )، وهي شبيهة لدى جينيت بالتبئير الداخليّ.

3 - الراوي > الشخصيّة، أي: الراوي يعرف أقلّ ممّا تعرفه الشخصيّات، سواء أكان واحداً من الشخصيّات أو من المشاهدين أم كان من المستقلّين متّخذاً لنفسه مستوى زمانيّاً أو مكانيّاً أو إيديولوجيّاً خاصّاً به. وهو ما يسمّيه بويون بـ ( الرؤية من الخارج )، وهي شبيهة لدى جينيت بالتبئير الخارجيّ.

فالرؤية السرديّة – كما نرى – تختلف بين نوع وآخر باختلاف المعرفة والموقف معاً، وهذا التقسيم ليس إلاّ إطاراً عامّاً للرؤى، لأنّها يمكن أن تتداخل وتتعدّد حول الحدث الواحد.

تودروف بويون جينيت

الراوي < الشخصيّة الرؤية من الخلف التبئير في درجة الصفر

الراوي = الشخصيّة الرؤية مع التبئير الداخليّ

الراوي > الشخصيّة الرؤية من الخارج التبئير الخارجيّ

أنواع الراوي حسب زاوية الرؤية

ثانياً – الوصف Description:

هو تشخيص الأعمال والأحداث والشخصيّات.. ويميّزون بينه وبين السرد، فيقولون: إذا كان السرد يشكّل الحركة الزمنيّة في الحكي، فإنّ الوصف هو أداة تشكّل صورة المكان، فالحاجة إليهما معاً ماسّة في كلّ عمل قصصيّ، لا ينهض بلا زمان ولا مكان.

وللوصف وظيفتان أساسيّتان، هما:

1 - الوظيفة الجماليّة Aesthetic rol: " يقوم الوصف في هذه الحالة بعمل تزيينيّ، ويشكّل استراحةً في وسط الأحداث السرديّة، ويكون وصفاً خالصاً، لا ضرورة له بالنسبة إلى دلالة الحكي " . ومنه هذه الأوصاف للصباح في قصّة ( التاجر والموت ) لأيمن الطويل، ففي موضع منها يقول: " الصباح الناعم يشعّ راكضاً خلف غمامة سوداء تعانق الرياح الباردة في أعلى الفضاء، فتنشر الخصب، وتزرع الأمل، وتحيي الموتى على وجه الكرة الأرضيّة، والتاجر عبّاس يلهث مهرولاً إلى حانوته " ، وفي موضع آخر من القصّة نفسها يقول: " الصباح ما زال نديّاً، وغمامة سوداء أسدلت ستاراً كثيفاً حول عبّاس، فشعر بالظلام يطبق من جميع الجهات. ظلمات بعضها فوق بعض " ، وهي أوصاف تتماهى وحالة الشخصيّة، وتشيع حولها الأمل حيناً والبؤس حيناً آخر، ولكنّ هذا الوصف يبقى فضلةً، لا حاجةَ ماسّةً له في جريان الأحداث ودلالة الحكي.

2 –الوظيفة التوضيحيّة أو التفسيريّة Explanatory role: هي " وظيفة رمزيّة دالّة على معنى معيّن في إطار سياق الحكي " . ومنه هذه الأوصاف لحارةٍ في قصّة ( في ليلة من الليالي ) لزكريّا تامر: " يجيء الليل كفناً أسود، فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقّتها الملتوية المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثّة المتلاصقة، ومقهاها الذي يشبه تابوتاً مهترىء الخشب. وحين يبلغ الشوارع العريضة تبهره ضوضاؤها وسيّاراتها المسرعة وناسها المتأنّقون وأنوارها الساطعة المتعدّدة الألوان، فيمشي بخطى ذاهلة متباطئة مشدود القامة مرفوع الرأس شديد الزهوّ بشاربيه الكثّين الذين كانا يغريان عيوناً كثيرةً بالتحديق إليه بفضول ودهشة " ، وهي أوصاف رمزيّة، صنعت مفارقةً Irony بين ( الأسود ) من أحيائنا الشعبيّة و( الأبيض ) من أحيائنا الراقية، لا بدّ أن تؤدّي في النهاية لدى البطل والقارئ على السواء إلى الذهول والأسى معاً.

ثالثاً – الحوار Dialogue:

هو حديث بين شخصيّتين أو أكثر في سياق حدث ما، لا شأن للراوي في مجراه ولا في مفرداته، لأنّه لغة الشخصيّة نفسها، أو هو لسانها وأسلوبها، يكشف عن سلوكها وانفعالاتها ومشاعرها، ويحرّك أحداث القصّة ووقائعها. فالحوار يرسم صورةً مثلى للشخصيّة القصصيّة في مختلف ظروفها الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة، ولكنّ هذه الظروف كما هي في الحياة لا يمكن أن تنقل إلى حوار أدبيّ صرف إلاّ بعد أن تشذّب وتهذّب، حتّى لا يعرض القارئ عنه، ويدعوه إلى الملل. ومن شروط الحوار أن يكون مكثّفاً وموحياً وموائماً بين الشخصيّة ومختلف ظروفها، فحديث الشيخ يختلف عن حديث الفتى، وحديث ابن البادية يتميّز من حديث ابن الحاضرة، ولكلٍّ حديثه الذي يتلاءم وتلك الظروف. إنّ الشخصيّة القصصيّة تفقد لمحةً بارزةً من ملامحها، إن لم تتحدّث بلغتها الخاصّة، لأنّ اللغة جزء لا يتجزّأ من تكوينها .

في كتابه ( الحوار القصصيّ ) يميّز الدكتور فاتح عبد السلام بين نوعين من الحوار، هما:

- الحوار الخارجيّ Dialogue:
هو حوار مع الآخر، يجري على شكلين: مباشر وغير مباشر، فإذا تناوبت فيه شخصيّتان أو أكثر الحديث وجهاً لوجه، فهو حوار مباشر، أو هو حوار تناوبيّ، نذكر من صيغه أفعال القول وما في معناه، نحو: ( قال، وأجاب، وهمس، وصرخ، ونادى.. )، وإذا أوجز الراوي بضمير الغائب ما جرى على ألسن الشخصيّات من حديث خلال سرده الحكاية ، فهو حوار غير مباشر، أو هو حوار سرديّ، لا يتقيّد بالنصّ الحرفيّ للحوار، لأنّه يجري على لسان الراوي نفسه لا لسان الشخصيّة.

- الحوار الداخليّ Monologue:
هو حوار مع النفس، يجري على خمسة أشكال، هي:

1 - حوار تيّار الوعي Stream of consciousnes:

هو نوع من الحوار، يتداعى من ذهن الشخصيّة، بل يفيض من نفسها فيضاً عارماً، يكسر منطق الأحداث، ويخلخل تسلسلها السببيّ، ويستمدّ طاقته التعبيريّة من قدرة الراوي أو الكاتب على الدخول إلى نفس شخصيّته في لحظة محدّدة، ليسبر أغوارها، ويرصد وعيها، ويستكشف قرارها العميق الذي ترسّبت فيه تجارب الحياة وأحلامها وذكرياتها.. وهذا الخليط من الصور في القصّة يظهر على شكل تساؤلات وانفعالات وعلى شكل أحلام وأوهام، تضطرب فيها الأزمنة، وتختلط الأمكنة، وتتداخل الضمائر.. وهنا لا يحمّل الكاتب الشخصيّة محدودة الوعي أكثر ممّا تحتمل، فلا يحمّل رجلاً معتوهاً على سبيل المثال إلاّ وعياً متخلّفاً.

2 – المونولوج Monologue :

إذا كان حوار تيّار الوعي - وهو مصطلح سيكولوجيّ – هو حوار الراوي مع ذات الشخصيّة ودواخلها، فإنّ المونولوج – وهو مصطلح أدبيّ – هو حوار الشخصيّة مع ذاتها، فالراوي هنا يتقمّص دور الشخصيّة التي تقدّم نفسها بنفسها، وتكشف عن خباياها دون مواربة، وتصوّر بصدق وصراحة ما يعتلج في داخلها من مشاعر وأفكار، وما يتراءى لها من صور وأخيلة. ولعلّ ما يميّز حوار المونولوج من حوار تيّار الوعي هو: التعبير المتسلسل منطقيّاً، والبوح الوجدانيّ.

3 – المناجاة Soliloquy :

إنّ ما يميّز المناجاة من المونولوج هو أنّ الأولى تفترض وجود سامع حاضر ومحدّد، وكأنّ المناجاة تقنيّة مسرحيّة، بل هي في الأصل كذلك. وغالباً ما تكشف المناجاة عن حوارٍ مع النفس خاطفٍ، تتقاصر جمله، وتتعدّد ضمائره، وربّما تقع أسئلته المتلاحقة على أجوبة.

4 – الارتجاع Flashback :

هي عمليّة نفسيّة تقوم بها الذاكرة لاسترجاع أحداث من الماضي وتنشيطها في مجرى الحاضر وأحداثه، ويطلق أهل النقد على هذه العمليّة اصطلاح ( الخطف خلفاً )، وهو أن يقطع الراوي التسلسل الزمنيّ والمنطقيّ لأحداث القصّة، ويستطرد في ذكر أحداث ماضية، توضّح ملابسات موقف من مواقفها.

وهذا الارتجاع قد يكون منظّماً، يرصد الواقع كما تراه أعيننا ويلاحظه عقلنا، وقد يكون نُثاراً من الذكريات أو فتاتاً من الأحداث، وسواء أكان ارتجاعاً منظّماً أم غير منظّم لا يخرج على قصد الراوي ومراميه، لأنّه وسيلة من وسائله الفنّيّة، يضطرّ إليها السارد حيناً، وتلجأ إليها الشخصيّة حيناً آخر، فهي إذن وسيلة سرديّة وحواريّة معاً. إنّ صورةً معلّقةً على الجدار تبعث في المخيّلة ذكريات، لا يمكن للسارد والشخصيّة أن يتجاهلا صورها المتلاحقة، فالسارد يتذكّر حكايته معها، والشخصيّة تحاورها وجهاً لوجه، وكأنّها شخصيّة من لحم ودم، تمثل الآن أمامها .

5 – أحلام اليقظة Daydreaming، أو التخيّل Imagination :

هو القدرة على استحضار صور شتّى، تخدع العقل، وتخضع لإرادة الشخصيّة وحسّها الانتقائيّ، فالتخيّل هنا إراديّ، مجاله لاوعي اليقظة ، وشرطه الحريّة، ومَلَكَته الجدّة والابتكار. وأحلام اليقظة تتراءى لنا على أرض الواقع، لكنّها أرض بعيدة وغير مكتشفة من قبل، وتنطوي على انفعالات وصور جديدة، يعبّر عنها نوع من الحوار جديد، له معجمه اللغويّ، وله صيغه المعهودة التي قد تكون إشاراتٍ خاطفةً، أو تكون عباراتٍ صريحةً كقول أحدهم: " خيّل إليّ أنّ.. "، وقول الآخر: " تراءى لي أنّ .. ".

انتهت الدراسة الادبية للقصة القصير.راجية ان ينال اختياري استحسانكم
تحياتي
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
منال
مبدع مميز
مبدع مميز
منال


الجنس : انثى
عدد الرسائل : 2338
الدولة : قطر
الهواية : (ربة بيت)

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 18:20

احسنتي احسنتي
تبارك الله
مجهود رائع منك اختي هند
واختيار موفق فعلا
مادة ادبية قيمه
الشكر لا يوفيك
وكما قلنا سابقا تعرفي ماذا تنتقي
دمتي بهذا التالق اختي الغالية

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
العتيبي
مبدع مميز
مبدع مميز
العتيبي


الابراج : الاسد
عدد الرسائل : 1382
تاريخ الميلاد : 20/08/1969
العمر : 55
الدولة : السعودية
الهواية : الادب الشعبي

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالإثنين 16 مارس - 21:19

احسنتي هند
درس ادبي شامل كامل والكامل الله
بحث يحتاج للقراءه والاستفادة منة
تسلم يدك
وبارك الله بك
ودمتي بخير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
عاتقة
مبدع مميز
مبدع مميز
عاتقة


الجنس : انثى
الابراج : السمك
عدد الرسائل : 3878
الدولة : موزمبيق
الهواية : -
المزاج : نفس العواصف والسرايات

فن القصة القصيرة Empty
مُساهمةموضوع: رد: فن القصة القصيرة   فن القصة القصيرة Emptyالثلاثاء 24 مارس - 18:50

احسنت هند
اختيار رائع
مع ان عيوني طلعت وصرت حولة وانا اقرا
شكرا لك
مع تمنياتي لك بدوام التالق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فن القصة القصيرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ذكريات الماضي :: -(فضاء الأدب والمسرح)- :: أدبيات عربية منقولة-
انتقل الى: