(منقول)يعتبر الطيب الصديقي الفنان الذي واكب الحركة المسرحية الحديثة بالمغرب ، منذ انطلاقتها بعد الاستقلال ، وعايشها عن قرب عبر كل تحولاتها وازدهارها وانتكاساتها ، وساهم بقسط كبير في التعريف بالمسرح المغربي سواء في أوربا أو في العالم العربي ، ولا يزال يواصل عطاءاته بنفس الحماس الذي بدأ به منذ سنة 1954 .
نشأته وتكوينه المسرحي :
ولد الطيب الصديقي سنة 1937 بالصويرة ، وتابع بها دراسته الابتدائية ، ثم رحل إلى الدار البيضاء لمتابعة دراسته الثانوية ، وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا ، شارك بالصدفة في تدريب مسرحي بالمعمورة ، سنة 1954 نظمته وزارة الشبيبة والرياضة تحت إشراف الفرنسيان " اندري فوازان " و" شارل نوك " ، حيث انضم إلى " فرقة التمثيل المغربي " التي ضمت خيرة الذين شاركوا في تلك التداريب ، وقد شارك ضمنها في مهرجان باريس لمسرح الأمم عام 1956 بمسرحية " عمايل جحا " المقتبسة عن " حيل ساكابان " لموليير ، ولفتت مشاركته أنظار المهتمين ، وبفضل هذا الاهتمام أتيحت له فرصة المشاركة في تدريب بالمركز المسرحي لغرب فرنسا تحت إشراف " هوبير جينيو " Hubert Gignoux ، حيث عمل كمساعد للمكلف بالمحافظة العامة بالمسرح الوطني الشعبي لجان فيلار من فاتح فبراير إلى 31 مارس 1957 .
لقد بدأ الطيب الصديقي ممثلا ، ثم اقتبس بعض المسرحيات العالمية ، وقام بإخراجها قبل أن يؤلف مسرحيات تستمد مواضيعها من التراث أو من التاريخ ، سواء بالاشتراك مع مؤلفين آخرين ، أو بمفرده .
الاقتباس في مسرح الصديقي :
لقد بدأ الطيب الصديقي ممثلا بـفرقة التمثيل المغربي ، التي ستسمى فيما بعد فرقة المركز المغربي لـلأبحاث المسرحية ، وبطلب من نقابة " الاتحاد المغربي للشغل " ، إثر عودته من فرنسا كون فرقة " المسرح العمالي " سنة 1957 بالدار البيضاء ، حيث قدمت في موسمها الأول مسرحية " الوارث " من اقتباس احمد الطيب العلج في نونبر 1957 ، ثم مسرحية " بين يوم وليلة " لتوفيق الحكيم ، ثم مسرحية " المفتش " وهي مقتبسة عن غوغول في مارس 1958 بمناسبة الذكرى الثالثة لتأسيس الاتحاد المغربي للشغل ، وفي شتنبر 1959 قدم مسرحية " الجنس اللطيف " من اقتباسه عن " برلمان النساء " لأريستو فان ، وكانت هذه آخر مسرحية قدمتها الفرقة ، بعد أن أتاح للعمال الاطلاع على روائع المسرح الأوربي من خلال اقتباس الأعمال العالمية .
وأثناء انشغال الطيب الصديقي بالمسرح العمالي ، استمر بشكل عرضي ، داخل " فرقة التمثيل المغربي " ، حيث شارك في مسرحية " مريض خاطرو " التي مثلت المغرب رسميا في مهرجان الأمم بباريس سنة 1958 .
وبعد التوقف النهائي لتجربة المسرح العمالي ، عاد إلى فرنسا ليتمم تكوينه التقني ، ثم التحق بعد ذلك بمصالح وزارة الشبيبة والرياضة ، واقتبس وأخرج لها مسرحية " فولبون " لبن جونسون سنة 1960 . وقد حاول بعد ذلك الابتعاد عن فرقة المركز المغربي للأبحاث المسرحية .. تمردا (على نوايا الفكر الاستعماري بخصوص مستقبل المسرح المغربي ، إن هذا التمرد المبكر يدل على يقظة ووعي هذا المسرحي الذي سيطبع الخلق المسرحي في المغرب بطابع الجرأة والتجديد ) (1)
وفي بداية موسم 60-61 طلب مدير المسرح البلدي بالدار البيضاء " روجي سيليسي " من الطيب الصديقي أن ينشئ فرقة تتخذ من المسرح البلدي مقرا لها ، وهكذا أصبحت تحمل اسم " فرقة المسرح البلدي " ، حيث قدمت في موسمها الأول مسرحية " الحسناء " التي اقتبسها الصديقي عن " أسطورة ليدي كوديفا " لجان كانول ، ثم " رحلة شونغ لي " لساشا كيتري ، فـ " مولاة الفندق " المقتبسة عن " اللوكانديرة " لكولدوني ، وبعد ذلك مسرحية " محجوبة " المقتبسة عن " مدرسة النساء " لموليير ، كما أن هذه الفرقة أعادت مسرحية " الوارث " التي قدمها المسرح العمالي .
ومن روائع المسرح الطليعي قدمت الفرقة خلال موسم 61 - 62 مسرحية " في انتظار مبروك " التي اقتبسها الصديقي عن مسرحية " في انتظار غودو " لبيكيت ، قبل أن يضع حدا لنشاطه في المسرح البلدي في مارس 1962 . وفي سنة 1963 أنشأ الصديقي فرقة تحمل اسمه ، واستقر في إحدى القاعات السينمائيـة ( سينما الكواكب ) بشارع الفداء في أحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء ، حيث قام بإخراج مسرحية مقتبسة عن " لعبة الحب والمصادفة " للكاتب الفرنسي ماريفو .
وفي فبراير 1964 قام الصديقي بإعداد وتقديم مسرحية " حميد وحماد " لعبد الله شقرون ، ليعود مرة أخرى إلى الاقتباس من خلال مسرحية " مومو بوخرصة " المقتبسة عن " اميدي أو كيف نتخلص منه ؟ " لأوجين يونسكو التي قدمتها الفرقة في دجنبر 1964
لقد لجأ الصديقي للاقتباس لغياب النصوص ، لأن المسرح المغربي لم يرسخ تقاليد مسرحية بعد في تلك الفترة ، ونظرا لكونه يحسن اللغة الفرنسية ، ما أهله لـلاطلاع على النصوص الفرنسية والمسرحيات المترجمة إلى الفرنسية .
وفي بداية سنة 1965 سيتم تعيينه مديرا للمسرح البلدي بالدار البيضاء ، لتعود فرقته إلى حمل اسمها السابق " فرقة المسرح البلدي " ، وفي هذه المرحلة سيوقع على أعمال هامة ، ابتدأت بمسرحية تراثية تستلهم فرجة شعبية مغربية وهي ظاهرة سلطان الطلبة التي عرفتها مدينة فاس ، أثناء حكم السلطان العلوي مولاي الرشيد (1666 – 1672) ، وقد قدمت مسرحية " سلطان الطلبة " من تأليف عبد الصمد الكنفاوي بالاشتراك مع الصديقي في موسم 65 - 66 ، كما ستعرف بداية سنة 1966 تقديم أول مرة مسرحية من تأليفه وهي " في الطريق " التي سيحولها هو نفسه إلى فيلم سينمائي بعنوان " الزفت " ، وهي مسرحية اجتماعية ، تعالج ظاهرة الأولياء ، وفي نفس الموسم قدم مسرحية " مدينة النحاس " من تأليف أخيه محمد السعيد الصديقي ، وهي مسرحية اجتماعية أيضا . وبعد هذه الفترة ، التي عرج فيها الطيب الصديقي على المسرح العالمي والعربي من خلال الاقتباسات التي قدمها لحد الآن ، والتي أظهر من خلالها فهمه العميق لحركة المسرح الكلاسيكي والطلائعي الجديد في العالم ، وقدرته على التواصل مع أفكاره وخطابه .(وتمكن من العودة بكل هذه الأنواع المسرحية إلى الفرجة الشعبية الحقيقية )(2) ، بحيث في المرحلة اللاحقة سينطلق للتعامل مع التاريخ ، في فترات متقطعة ، قبل أن يغوص في التراث الذي سيركز عليه الاهتمام ، وسيوقع على أعمال مهمة مستلهمة من التراث المغربي والعربي والاسلامي .
التاريخ في مسرح الطيب الصديقي :
اهتم الطيب الصديقي بالتاريخ ومسرح (أحداثا عظيمة وحياة شخصيات مشهورة ، وهكذا جسد أطوار واقعة " وادي المخازن " في مسرحية " معركة الملوك الثلاثة " التي تحكي صفحة من تاريخ المغرب أثناء حكم دولة السعديين . أما سبب المعركة فيرجع إلى كون السلطان " المتوكل " كان قد أقصي بعد أن نفاه أخوه عبد الملك من المغرب . وقد حاول المتوكل استرجاع عرشه ، حيث نراه يتوجه إلى البرتغال ليلتمس المساعدة )(3) ، كما قدم في نفس الإطار ، صيف 1965 مسرحية تاريخية بعنوان " المغرب واحد " بميدان لمصارعة الثيران بالدار البيضاء ، (وكان عليه أن يغوص في أسرار التاريخ ، وأن يطلع على الوثائق ، ليقترح علينا عملا دراميا تتلاحق في ثناياه مشاهد المقاومة المغربية ضد الاحتلال الفرنسي وظروف الاستقلال )(4) كما قدم مسرحية " المولى إسماعيل " السلطان العلوي الذي وطد دولة العلويين واتخذ مدينة مكناس عاصمة له .
وبعد ذلك قدم مسرحية " مولاي إدريس " من تأليف أحمد عبد السلام البقالي ، في مارس 1974 بمناسبة عيد العرش ، وهي مسرحية تاريخية تتعرض لفترة من تاريخ المغرب ، كما قدم " تاريخ مدينة " بمدية مكناس لمدة خمسة أيام ما بين 10 و 15 شتنبر 1980 ، يستعرض فيها تاريخ مدينة مكناس أيام حكم السلطان العلوي مولاي إسماعيل .
توظيف التراث في مسرح الصديقي :
انطلاقا من سنة 1967 سيسعى الصديقي إلى توظيف التراث ، الذي (يعتبر عنصرا هاما في تكوين الأمة ثقافيا ونفسيا وفكريا )(5) فقدم رائعته " ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب " في 3 مارس من نفس السنة ، بمناسبة عيد العرش ، التي تعتبر أكثر مسرحياته نجاحا وشعبية ، وهي مسرحية تتعرض لحياة وأزجال شاعر شعبي هو الشيخ عبد الرحمان المجذوب (1503- 1569) ، الذي اشتهر عبر رباعياته التي ينتقد فيها عصره الذي تميز بالصراعات السياسية وانهيار أخلاق الناس )(6) ، وقد وظف الصديقي لتقديم هذه الرائعة الحلقة كشكل فني ، مستعيرا جامع الفناء ، الساحة الشعبية الشهيرة في قلب مدينة مراكش ، كفضاء سحري يخول له عرض شامل يوظف العديد من الوسائل التقنية التي تجمع بين المألوف والغريب بين الشاعري والمبتذل بين السمعي والبصري ، (والمسرحية استعراض فرجوي خصب للحياة النابضة في الساحة من حلقات مطربين وراقصين ومشعوذين .. ويربط الراوي بين فقراتها ، وهو شخصية مستوحاة من الحاكي للسير والخرافات والحكايات الشعبية في تجربة الحياة والوعظ والحكمة )(7). إن مهمة مسرحية المجذوب ليست مجرد تفسير وعرض للواقع ، وتقديم المغرب كما كان في القرن السادس عشر وانما في الإشارة إلى التغيير ، وانتقاد الحاضر من وجهة نظر إمكاناته المستقبلية )(
وسوف تتم إعادة عرضها لأكثر من عشرين عاما ، بشكل متقطع وبنفس النجاح تقريبا .
ثم قدم مسرحية " الحـراز " التي تستلهم أدب الملحون الذي يعتبر أحد الأنماط الغنائية الشعبية ، في بنائها الدرامي كمادة لها صلة عميقة بالوجدان الشعبي المغربي ، وهي أغنية تتميز بالصراع الدائر بين الحراز الذي يخفي عويشة ، وعثمان المحبوب الذي يقوم بالتنكر طوال زمن القصيدة في زي عدة شخصيات من أجل الوصول إلى محبوبته ، فينكشف أمره في كل مرة ، ونقلها الصديقي إلى الخشبة ، ليجسدها دراميا في مجال مسرحي احتفالي عار دون ستارة .. ففي قلب الخشبة نصب منصة عليها ممثلون بمثابة الجمهور.)(9) فهي فرجة غنائية درامية .
وفي أكتوبر 1971 قدم مسرحية " مقامات بديع الزمان الهمداني " التي أثارت جدلا واسعا بين النقاد عندما عرضت في مهرجان دمشق المسرحي عام 1972 ، على قاعدتين أساسيتين ، الأولى تتعلق بالنص الأدبي " مقامات بديع الزمان الهمداني" المستمدة من قصص بديع الزمان الهمداني ، والثانية تتعلق بالفنون الاحتفالية والفرجوية ، وهو ما جعل هذه المسرحية في نظر النقاد أكثر الأعمال المسرحية اقترابا من الأصالة العربية حيث استفادت من إمكانيات المسرح المعاصر في تقنياته ، ومن امكانات التراث العربي في أصوله (10) لهذا صنفت من بين الأعمال التي أصلت الشكل المسرحي العربي ، لأنه (ليس الرجوع إلى التراث هو الذي اكسب المقامات هذه القيمة الفنية ، وجعلها عملا متميزا في نظر عديد من نقاد المسرح في المغرب والمشرق ، نظرا لأنه تعامل مع التراث بوضوح رؤية ، وتحديد الموقف من التراث)(11) . (إن المقامات على ما بها من غموض إيديولوجي ، مسرحية تجمع بين جانبين اثنين : جانب سياسي اجتماعي .. وجانب تأصيلي يتجلى في عملية بحث عميقة وذكية عن أسلوب للتعامل مع تراث قابل للمسرحة ، ويؤسس قاعدة تقليد مسرحي أصيل ، تقبل عليه الجماهير كي تجد فيه نفسها وماضيها وتطلعاتها ، إن المقامات محاولة استلهام التراث العربي عن طريق تبني هيكل بعض المقامات الهمذانية واعطائها شكلا مسرحيا معاصرا )(12) .
ثم واصل اعتماده على التراث من خلال مسرحية " كان يا ما كان " تأليف محمد السعيد الصديقي ، ثم قدم رائعة أخرى معتمدة على التراث العربي الإسلامي ، سنة 1976 وهي " الغـفـران " عن " رسالة الغفران " للمعري ، كتبها الكاتب التونسي عز الدين المدني . وبعد ذلك عاد إلى التراث مرة أخرى من خلال تقديمه " الإمتاع والمؤانسة " عن حياة أبى حيان التوحيدي ، حيث قام بعملية (التوليف والمزج بين مجموعة من النصوص لبناء النص فلقد اعتمد على بعض الأخبار المتصلة بحياة أبي حيان التوحيدي ، وما كتبه هذا الفيلسوف نفسه وخاصة الليلة الرابعة والثلاثون من " كتاب الإمتاع والمؤانسة " المقسم إلى حوالي أربعين ليلة أو أربعين مسامرة حيث تحدث عنه في الجزء الأول من الكتاب .. كما اعتمد نصوصا من " الإشارات الإلهية " ، " الصداقة والصديق " والمراسلات ليمزجها في نص واحد ، كما أخذ مادته من معجم الأدباء " لياقوت الحموي ، وقصة الجمجمة للشيخ عبد الله الكفيف ، وقد استفاد كذلك من المقدمة التي كتبها أحمد أمين لكتاب الإمتاع والمؤانسة)(13) ، أن نجاح هذه التجارب تم (بفضل جرأة الفنان الصديقي وبعد نظره وتمكنه من فن الإخراج وحضوره الواضح على المسرح كممثل ، واستخدامه لحيل مسرحية بسيطة ولكنها مستعملة بمهارة مثل الأقنعة والمهمات المسرحية الساذجة كقطع الخيش ، كما أنه ممتاز في فن الإضاءة المسرحية وفي فن استخدام أجساد الممثلين استخداما تشكيليا أخاذا )(14) ، لكن المآخذ التي تسجل على الطيب الصديقي في هذا الباب (هو أنه قدم التراث كما هو ، عوض الاشتغال عليه وتحويله إلى مادة حاملة لخطاب جديد وليس فقط لخطاب ماضوي)(15) لكن التراث في أعماله ( عنصرا ديناميكيا يتيح له ابتكار فضاءات مسرحية رحبة وصياغة مواضيع وقصص وحكايات تتقاطع وتتواشج فيما بينها لتشكل في النهاية خطابا دراميا يتأطر الوجود كاملا في نطاقه ، حتى وان كان المضمون الرئيس سيرة ذاتية لعلم من أعلام الفكر العربي )(16) .
إن فعل هذا الافتتان هو الذي أتاح له اختراق آفاق التراث .. حيث كان تعامله معه يعتمد على قناعة فنية ، كانت الغاية منها تأسيس مسرح عربي الصيغة ، وعالمي البعاد .. رغم أن ينابيعه المعرفية والجمالية تنحدر من أصل عربي (17)
توظيف فرجة البساط :
وبعد فترة توقف ، عاد إلى تجاربه ، من خلال الاعتماد على فرجة البساط التي ظهرت في بداية القرن الماضي ، وترتكز على (التنكر الكرنفالي ، كما تقوم على نصوص مخططة سابقا وعلى فعل الارتجال والحركة والغناء)(18) وكان هذا الفن الفرجوي الذي يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر حينما كان يقدم أمام السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790). ونظرا لأهمية هذه التظاهرة الترفيهية ، فإن الملوك كانوا يحيطون المبسطين بحفاوة كبرى ، وكثيرا ما كان " البساط " فرصة يغتنمها المشخصون لتبليغ شكواهم إلى الملك ، أو تذمرهم من أحد رجال السلطة . كما أنه يمكن من (الكشف عن عيوب المجتمع وفضح الممارسات المشبوهة التي لا يكون هنالك سبيل لإعلانها وإدانتها سوى بتشخيص أطوارها أمام أولي الأمر في قالب فني انتقادي يعتمد الرمز والمجاز أحيانا والتصريح المباشر أحيانا أخرى )(19) ، ويتميز هذا الفن بكون الممثل يحمل تسمية خاصة ، ففي الشمال يطلقون عليه لقب " بوهو " وفي الجنوب يسمونه " المسيح " ، أما الشخوص فهم ثابتون لا يتغيرون في سائر التمثيليات ، فهناك أولا شخصية " الساط " الذي يمثل القوة والشجاعة وحب الإقدام ، ثم يأتي بعده " الياهو" أي اليهودي الذي يرمز إلى النفاق والجشع والخوف وكذا الذكاء المفرط . وفي مقابل هاتين الشخصيتين ، نجد " حديدان " الذي يتميز بأوصاف حميدة ، كنسيان الذات ، وطهارة النفس ، وحب الآخرين إلى غير ذلك من الفضائل .)(20) وبالرغم من أن نفس الشخوص تأتي دوما في تمثيلية البساط ، فإن موضوعها يتغير ويتجدد (21) ومن هنا بإمكاننا أن ندرك أهمية البساط كفن لا ينغلق في جوانب التسلية العقيمة ، فهو إذن يحمل إرهاصات الإلتزام العميق ، كمسرح تقليدي عرف عصره الذهبي أثناء فترة حكم المولى عبد العزيز (1895-1905)
إن فن البساط يستمد قوته ، وبالتالي مشروعيته من امتداداته الشعبية عند السكان الذين شكلوا جمهوره الممتاز ، ومن الهامش الذي تركه المخزن للإبداع . وقد قدم الصديقي في إطار هذا الفن مسرحيات : " الفيل والسراويل " سنة 1997 ، " ولو كانت فولة " ، "جنان الشيبة " ، " المطعم البلدي " " الشامات السبع " ، " قفطان الحب " ، " السحور " ...
وعندما استلهم فن البساط فانه لم يسقط من هذه الأعمال ( تأثير أستاذه الأول الذي تعلم منه بناء وتحويل الديكور فوق الركح واعتماد مجموعة من التوابع والتصاميم التي تؤسس فضاءات تحرك الممثلون كما تعلم منه صنع الشخصيات والأحداث )(22)
الإخراج في مسرح الصديقي :
ومن خلال ريبرتواره ، قد نجزم أن الطيب الصديقي أصبح بامتياز صانع الفرجة بعد أن تمكن من امتلاك أدوات صناعة الإخراج ، بعد أن تعلم أسرار المهنة على يد أستاذه " جون فيلار " في المسرح الوطني الشعبي الفرنسي ، هكذا وظفت الحلقة والحكواتي وسلطان الطلبة وفن البساط وكل الأشكال الفنية الشعبية لصناعة احتفالاته المسرحية سواء باللغة التي يكتب له بها السعيد الصديقي أو عبد السلام الشرايبي ، أو باللغة الفرنسية والتي قدم بها " الشامات السبع " و " خلقنا لنتفاهم " )(23) لأنه يعتمد تقنيات ركحية تنحدر من التراث الفرجوي الشعبي ، كما تعتمد الحكي والسرد والغناء والرقص لتأْسيس جمالية مغربية متفردة على مستوى الإنتاج المسرحي (24)
إن الصديقي قد توصل إلى إيجاد صيغة درامية تمكن الهوية العربية والمغربية عبر تشكلاتها الفرجوية وأبعادها الحضارية دون أن تقطع صلتها مع المسرح الغربي(25) بحيث في مسرحية " حفـل عشاء ساهر " عالج فيه بطريقة اخادة قصة ردم المسرح البلدي بالبيضاء المسرح الذي أداره لمدة سنوات ، فالمسرح لديه ليس هو النص الأدبي ولكنه المناخ الذي يبدعه الإخراج على أساس من الخطوط الأساسية للنص ، ذلك المناخ الذي يتيح للجماهير أن تحقق التواصل وتحقق لحظة السعادة الجماعية (26) ، عبر المسرح الشامل الذي يستعمل كل الوسائل الفنية لإنتاج فرجة شاملة تخول للمسرح استرجاع وحدته من خلال ما يقوم عليه العرض من ثراء ، ويدفع المتلقي إلى أن يكون دوما في حالة انبهار ، وذلك عبر فرجات يتحرر فيها التاريخ من قبضة الزمان والمكان لأنها تخاطب العقل والعين (27)
في سبيل الختام :
إن آخر نشاط شارك فيه الصديقي ، بمناسبة انعقاد دورة الجامعة بالصويرة التي نظمتها جمعية الصويرة موغادور ما بين 18 و 20 فبراير 2005 ، حيث قدم مسرحية " عزيزي " احتفاءا بأخيه محمد السعيد الصديقي الذي وافته المنية سنة 2003 ، عن سن تناهز 70 سنة ، وهو من مواليد مدينة الصويرة ، كان مؤلفا وشاعرا ورجل مسرح والمسرحية تلك عبارة عن كولاج يخترق بعض المسرحيات التي كتبها المرحوم والأغاني التي ألفها نذكر منها التي نذكر منها على سبيل المثال : السفود ، مدينة النحاس ، كان يا ما كان ، ...
عبد الرحيم محلاوي