إدريس زايدي: تداعيات قرائية في قصة: شذرات من أدب الحمار
للقاص والناقد محمد إدارغة
المنعطف الثقافي :الجمعة 15 شتنبر 2000 العدد23
مقدمة: إن موضوع هذه المداخلة المبتسرة لقصة شذرات من أدب الحمار للأستاذ القاص والناقد محمد إدارغة لا تدعي الإحاطة والشمول ولا تدعي تحليلاً قائماً على أساس منهجيً مــــن جهة، أو الكشف عن أطرها التاريخية والاجتماعية والفكرية ،فذالك له ضوابطه ... ولكنه قد يقف الدارس أحياناً وقفه نقدية عند ملامح النص القصصية الإبداعية إيمانا منا أن القاص قد نهج في قصته أسلوبا يستدعي الوقوف عند سماته الكبرى القائمة على أبعاد متداخلة يجمع بينها رغبة القاص محمد إدارغة في الكشف عن قلق الكتابة القصصية الذي يسكنه كقاص ثمانيني .وهذا ما جعله موزعا بين تجريب الشكل القصصي الذي تعالق مع .....تشبعه بالموروث الثقافي كرمزية الحيوان في كتاب الحيوان من جهة والحس الواقعي الذي جعل القاص مفتونا به وهو ذو الأصل الريفي/الدخيسة المحاذية لمدينة مكناس، وهي القرية التي ارتبط سكانها بالدابة في التنقل وقضاء المآرب ... وعليه فإن طبيعة الرؤية النقدية تستلزم منا محاصرة النص القصصي كبناء فني وشكل تعبيري ارتضى له صاحبه بناء معماريا خاصا يعكس مرجعيات القاص محمد إدارغة المهووس بفن القصة إبداعا ونقدا منذ عقود ...إن نص شذرات من أدب الحمار يقدم دلالة تسويغية لمحاورة إطاره المرجعي تاريخا ومجتمعا وفكرا.. وبناء على ما سبق ، وما دام النص قد اشتغل على أكثر من مكون في إطار تجريبية محنكة ،أود وبشكل قرائي روتيني أن أبدأ بالعنوان كعتبة تختزل دلالات أعمق تعكس هاجس الكتابة :
1 - قراءة في عتبة العنوان: شذرات من أدب الحمار.
ولما كان الحمار آخر لفظة في العنوان من باب الإضافة فهو جامع ما سبق..ولن يؤخذ منه غير جزء، مما يدل على أن حمار صاحبنا ليس بالمعنى الذي يتداوله العامة ،فهو إما حمار من نوع خاص ، هو أديب أو صاحب أدب..ولما خص بالأدب فهو الأديب الذي لا يقدم إلا بعضا مما لديه ،يدل على ذالك حرف الجر من للتبعيض علاوة على لفظة شذرات وهي جمع شذرة..والشَّذْر:قِطَعٌ من الذهب يُلْقَطُ من المعْدِن من غير إذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر. والشذرة أي اللؤلؤ الصغير، قال الشاعر:
وقال ياقَوْم رَأَيْت ُمُنْكَرَه شَذْرةَ وَادٍ،وَرَأَيْتُ الزُّهَرَهْ
والتَّشَذُّرُ: النَّشاطُ والسُّرْعة في الأَمر. وتَشَذَّرَتِ الناقةُ إِذا رأَت رِعْياً يَسُرُّها فحرّكت برأْسها مَرَحاً وفَرَحاً .
وقيل: التَّشَذُّر التَّهيُّؤُ للشَّرِّ..
وقيل التَّشَذُّرُ التوعد والتَّهَدُّدُ؛ وقال لبيد :
غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذُّحُولٍ، كأَنها جِنُّ البَدِيِّ، رَوَاسِياً أَقْدَامُها
والتَّشَذُّر: التَّهَدُّدُ؛ ومنه قول سليمان ابن صُرَد: بلغني عن أَمير المؤمنين ذَرْءٌ من قول تَشَذَّرَ لي فيه بشَتْمٍ وإِيعاد
فَسِرْتُ إِليه جَوَاداً ، أَي مسرعاً ......
ومهما يكن ف لفظة شذرات تدل على اللآليء والفرح كما تدل على التهديد والتهيؤ للشر
وهذا يجعلنا نعتقد أن اختيار العنوان كان بأحد أمرين : حالة غضب أو حالة فــــرح ..والثابت أن الإختيار في حالة الفرح لا يكون بالجزء ، ولما كان التعبير بالجزء قل الفرح وكثر الغضب ... وتم تقنيعه على شاكلة النصوص التي تحدثت رمزا بلسان الحيوان فــــي التراث ،درءً للشبهات وسياط الخلفاء..
إن اختيار لفظة شذرات تتراقص بين الدال الذي يحيل على التعدد وبين فعل الاختيار الذي يدل على أن القاص كان إزاء متعدد ، فوجب الاختيار قصدا منه أو لما تقتضيه كتابـــة القصة...ففي الحالتين معا ، ماذا اختار القاص ليُبلِْغه لنا ؟ فإذا علمنا أن القاص يتوزعه قلق التجريب في الكتابة القصصية ،يدل على ذلك معمار القصة القائم على التناسل والتوليد، وإذا علمنا أن شخصيةالواصف، التلميذ تعيش ضغوطات نفسية وانفعالات داخلية لم تقو الذاكرة على أسرها ، حين يقول : {ما أنا بتلميذ غر لا ينتصب قلمه...وما رمت الوصف في هـــذا المقام إلا إيعازا وإلحاحا مما ترسب من فائض الأخبار في ذاكرة لا تقوى على الاحتمال ...} وإذا علمنا أن الحوار كان بين جنسين مختلفين لغة وإحساسا وتصويرا وتجربة وغير ذلك ، فإن التواصل الحواري يقتضي الحذر والتريث ،أي اختيار الكلام شذرة شذرة ، ولما كــــان الكلام مسترسلا بليغا في النص دل ذلك على أن الحمار تنكر لجنسه ،وأصبح عاقلا وأديبـــا ناقدا ،يجاري بني الإنسان في فكره وانشغالاته التأملية، فاختار له القاص صفة الأديب منـــذ العنوان ليقيم معه تآلفا وتواددا يجمع بينهما فعل القلق والرغبة في تجاوزعوالم القهر والوحدة ، يظهر ذالك من خلال نهاية القصة ، يقول الواصف :{ورغم أنفك أحيطك علما أنني ربحت الرهان ،فبرفقتك الطيبة ظل قلمي في متاهات شذرات من أدبك الآتي،وبصحبتك تلاشت وحدتي ،فإلى اللقاء} .
2 – القصة بين هاجس الكتابة والواقع
فالقاص محمد إدارغة لم يقع في أحابيل التخييل المغرق بقدر ما عمل على نقل الواقع بحرفية تخيلية قوامها خلق محاورة بين الشخوص قائمة على التكافؤ بين طبيعتين مختلفتين ، طبيعة الحيوان /الحمار وطبيعة الإنسان ،يوحدهما فعل الكلام والتفكير كرابط بين شذرات القصة ...وهذا وجه من وجوه الكتابة التي ارتضاها الكاتب لنصه ، وكأن القصة عنده هي المعادل الشكلي لواقع المجتمع الذي لا يزال يتلمس القبض على حقيقة اليومي والمعيش...وجاء التعبير عنها على لسان الحيوان مما أكسب النص مسحة العجيب والغريب على غرار قصص الحيوان في تراثنا الأدب العربي والعالمي...
إن القاص محمد إدارغة يعي الواقع وإشكالاته، لكنه لا يقع أسير دروبه ومتاهاته، بل يجعل من أحداثه مجالا للتأمل والخيال وسبيلا لا يمكن للقاريء إلا أن يعيش معه توترا جميلا يعيد صياغة النص بناءً آخرعلى مستويات نقترحها كالتالي :عرض الشذرات – ما بعد الشذرات – الشكل الفني
أ - عرض الشذرات : تتوالى الشذرات ،المسماة شذرات المقام ،على لسان شخصية التلميذ كالتالي :جاء في الشذرة الأولى أن /حيث تعرض الشذرة الأولى قصة حمال شيخ مع حماره الذي ثار عليه لأنه لم يلبسه نعلين منذ أن صاحبه .والشذرة الثانية بقوله : أما الشذرة الثانية فقد صدرها مخرج التفاهات والتهافت...وهو يشير إلى خبر نقله صحفي في جريدته الغراء ..ومفاده انتفاضة الحمار بالتمرغ في التراب ورفض الحرث مقسما أن لا يتم ذلك إلا بشرط الزواج من البقرة التي يقرنه بها لجر المحراث..ولما تكلم الحمار تعجب صاحبه ، ولما أخبر الناس رموه بالعته ودعوا له بالشفاء...
أما الشذرة الثالثة التي يبتدئها ب:وثالثة الأثافي الشذرة الثالثة ،التي تراهن على استدراج القراء بسبق صحفي /جماعة من الناس تفاجىء امرأة في جلسة إيروتيكية مع حمار فحل../ ويتبرأ الزوج من عصمتها وذمتها ...والأطفال يرجمونها ..حتى تنزهق مهجتها ..
ب - ما بعد الشذرات : يقدم القاص حوارية بين الموصوف / والواصف ، وليس الموصوف سوى الحمار الذي سيستمر في ثورته وغضبه على الكتاب والحكماء الذين لم يوفوه
حقه ،يقول {لكن صاحبي هذا يبقى في حاشية الاستثناء،وكتاباته لم تفلح في إكسابي الاحترام اللائق }...وفي هذا الجزء من القصة يسترسل الحوار حول موضوعات متنوعة ، نصوغها كالتالي:
-إعلان الحمار أن زمن تهميش الحمير ولى...
-لوم الحمار للشعراء الذين لم يهتموا به كثيرا على غرار باقي الحيوانات ..
-إقرار الواصف بمنزلة الكلب الأولى من باب الأنس، وإحياءً لمنزلة الحمار يخط خربشاته هذه...
-يتهم الحمار الواصف بجريرة التملص من درامية الأشياء كلما كتب ،
-يثمن الواصف الموقف النقدي للحمار ،ويغتبط بربح رهان مصاحبته على امتداد القصة..
إن جزء القصة الأخير يتميز بحوار دار بين الحمار والواصف ، وهو ما يجعل القصة قابلة للإنفتاح ولو شاء صاحبها لفعل ، ويدل هذا على أمور منها : - ارتباط القاص بقضية الشكل الفني كتجريب أفقده زمام التوقف ،بل أن الإنفصال بين المتحاورين قد تم وفي نفسيهما شيء من حتى ، مما جعل الختم دالا على التوتر من الجانبين . فالواصف أسعده أن يكون الحمار قد تعلم ، لكن تعلمه لم يكن إلا لإسقاط الإحساس بالوحدة والوحشة عن نفسه ،يقول الواصف :{يسعدني أن تكون أول منتقد لها – في إشارة للشذرات – ورغم أنفك أحيطك علما أنني ربحت الرهان ، فبرفقتك الطيبة ظل قلمي في متاهات شذرات من أدبك الآتي ، وبصحبتك تلاشت وحدتي ،فإلى اللقاء } ،من هنا جاءت رحلة الحوار ملغومة لتبقى صفة الغباء لصيقة بالحمار، وهو ما يحيلنا على رمزيته وإحالته على الواقع الذي يشغل بال القاص ، وهو واقع الإنسان الموبوء بالقهر والتهميش والحرمان ،من هنا كان تمرد الحمار على مباديء الإملاء والتسلط التي يعيشها مع صاحبه الحمال الشيخ ،وكانت رغبته في إشباع نزواته بطريقة لاشرعية مع امرأة لما لم يتم تحقيق طلبه الشرعي في الزواج من بقرة ظلت طول حياته تقرن معه في الحرث.
ج - الشكل الفني: إن معمار القصة رغم جاذبيته الفنية لم يسلم من طابعه التعليمي الذي ينطلق من هاجس تحديد المفاهيم استقراء أو استنباطا . فصاحبنا انطلق من الوصف يحدده ، في إشارة إلى صك قرائي يربطه مع القاريء ،فهو يشرح مفهوم الوصف بأوصاف شذرية إما توطئة منه لعرض شذراته أو إعدادا لإقحام المتلقي في عالمه القصصي ....إن مقدمة القصة هي من صنع الراوي رغم البداية التي تشير إلى {أنت الواصف} والتي يمكن تحويل موضعها كالتالي على سبيل الجملة الاعتراصية { تداعبك أنت الواصف رعشة من عيار غير مطبوع ولا مختوم...} فيكون الراوي هونفسه الأنت حين يعمد إلى الكشف عن بواطن مخاطبه ، وكأن القاص يبحث لنفسه عن معمارية قصصية تستوعب دواخله..وبما أن القصة ليست ابتكارا ً من خيال، بل هي إعادة صياغة للواقع، أي خلق واقع مركب من واقع موجود، دون إهمال للتخييل الإبداعي ، فإن القاص قد مارس تأثيره المبدع عند صياغة بنية معمارية مبنية على فعل الكلام الذي يقتضيه الوصف ، وهي بنية شكلية ، قد تبدو مفككة ظاهريا اعتمادا على المحكيات الشذرية ، إلا أنه عند تفكيك بنيات القصة تتضح قصدية الكاتب في جعل شكله القصصي ذا بعد اجتماعي ، أي أنه تنبه إلى التفكك القيمي داخل المجتمع ،فحاول أن يستوعب تطبيقا سوسيولوجيا الشكل ، كما نبه إلى ذلك عبد الله العروي منذ زمان...من هنا يغدو المعمار الفني للقصة مجالا للتماهي مع الأشكال التي تنتظم حياة الناس الاجتماعية ...
3 – التوظيف التراثي والديني : { الواصف أنت : حدثك فلان عن فلان عن فرتلان وكلهم من روات الفضائح الثقات...} إن هذا المقطع من القصة بما يتمتع به من إحالات على مرجعيات متنوعة دينية وشعبية تراثية ، هو أسلوب عمد إليه القاص كآلية تمزج بين الدين والحديث كمعطى مقدس {حدثك فلان عن فلان عن...} والحياة بتناقضاتها العجيبة وفضائحها المتعددة { فرتلان...روات الفضائح الثقات } وذلك من أجل خلق توتر قرائي يراهن عليه المبدع كسبيل لتفكيك طقوس الكتابة ، وكأن الكتابة لعبة لاستدراج عوالم أخرى ، أو هي نفسها عالم متكتم عن نفسه ينتظر أن يستدرجه القاريء ويعري عن سوءته كالتالي :فالحديث كلام مقدس لا يمكن مناقشته إلا وأنت على وضوء أخلاقي ، لهذا فهو يمتلك سلطة بحكم سلسلة صدوره عن القائل الحجة...لكن حين يضيف القاص { وكلهم من رواة الفضائح الثقات }يخلق معنى جديدا ساخرا يحمل القاريء على الجري اللاهث وراء الفضيحة ، وهي خارج الحديث...هكذا يغدو الحديث شكلا فارغا لمحتويات معرفية تستدعي استنطاق الذاكرة ، فتستعيد عافيتها المفقودة .إنها دعوة للتمرد تبناها الموصوف/ الحمار، وصحا من حياة الحرمان كما صحا الواصف/ التلميذ لما استفزه الراوي وجعله موضوع حكاية ساخرة من طرف الرواة ، يقول الراوي :{ يحكى في أواخر العهد والزمان أن تلميذا لا تستهويه من عوالم التعبير سوى وصف الطبيعة...} فيجيب التلميذ: { ما أنا بتلميذ غر لا ينتصب قلمه إلا إذا لفه الربيع بطيلسانه...وما رمت الوصف في هذا المقام إلا إيعازا ...مما ترسب من فائض الأخبار }..إن الإحالة على الحديث هو دعوة إلى التمييز بين الكلام المقدس الطاهر الحجة والكلام الباطل الذي يستبطنه البشر في انتظار تفجيره أو انفجاره . من هنا أمكن الحديث عن الهم الإيديولوجي الذي يسكن القاص، وهو الهم الذي يذكي جذوة التمرد على القيم المنحطة في عالم أذعنه الإستبطان ....
4 - التداعي وتوليد الكلام.
إن طريقة التداعي التي اعتمدها القاص محمد إدارغة قد أضفت على قصته قيمة جمالية تستمد مقوماتها من الخيال دون أن تمس البناء المعرفي الممتد عبر خيوط السرد .وهذا ما جعل القصة تستعير آليات التوليد على مستوى الشكل كمعادل فني لصورة التمرد والثورة في شخصية الحمار...يبين ذلك المحكيات الثلاثة المتعالقة والمترابطة بفعل حوارية الواصف والموصوف عند ما يتخلص الراوي من فعل تداعياته.....هكذا يصبح فعل الحكي موضوعا أساسيا وموقفا تأمليا في فعل الكتابة قبل المحكي الذي يحمل أكثر من دلالة رمزية عند الكاتب ،كما يعبر عن ذلك عنوان القصة من خلال حمولته الدلالية المستمدة من علاقته بعالم الكتابة والإبداع وهو عالم الوعي من
جهة ، وعالم اللاوعي من جهة أخرى.. ومن تم تساوق رد فعل شخصية الحمارمع فعل الكلام، والقاص بين هذين العالمين يركب صوره الشذرية دون أن يستسلم لمنطق العقل الذي غالبا ما يحد من إبداعية المبدع التي تقوم على مبدإ الحرية ، يزكي هذا ميل كثير من المهتمين بالدراسات الفكرية إلى كتابة الشعر أو القصة والرواية كما هو الشأن مع عبد الله العروي نموذجا ، أو مزاوجة القاص محمد إدارغة بين مهمتي النقد وكتابة القصة ، ولهذا الإحساس نجده يشتغل على الجانب الكيفي الشكلي ،محاولا أن يجيب عن سؤال كيفية تخطيب حكاياته . ولعل هذا ما جعله لا يكتفي بتمطيط شذرة واحدة من شذراته ،بل حاول أن يجعل من شذراته قصة يكون الرابط بينها شخصية الوصوف الحمار، وكأننا إزاء مشاهد رحلية متنافرة لولا الراوي الذي يحضر بأناه ليعقد مع القارىء علاقة خيانة مكشوفة وممتعة...وهذا ما حاول أن يقوم به القاص ، وهو المدرس المستفز لتلامذته بالعجيب والناذر، مما أدى بالتلميذ إلى إعلان تمرده على الجاهز بغية إخراج فطنته الراقدة فيه ، فتَمَرَْدَ شَذَرَاتٍ ثلاثاً كان فيها حريصا على جعل الحمار مرغوبا فيه ما دام يوقظ في المتلقي جذوة التعبير والتمرد على السكوت .
إن القاص يدخل في أعماق شخصياته ، ويستبطن الحدث متجاوزا ظاهر الأشياء ، فهو يعيدها خارج حدود الزمان والمكان وكأنه يبسط على شذراته صفة الإمتداد لتغدو مجالا لتأمل القاريء وإنتاجه لدلالات جديدة..يبدو ذلك من خلال جعل استهلال الفقرات الأولى من القصة بمؤشرات قرائية كالتالي :- أنت الواصف:تداعبك...- الواصف أنت:حدثك فلان عن فلان... فالقاص هنا حريص على فعل الكلام ويوهمنا أنه يعرف عن مخاطبه ما لا يعرفه المخاطب عن نفسه ، فهو يصفه قبل أن ينقل إليه مهمة الوصف ، بل أسماه باسم فاعل مشتق من الوصف لينوب عنه في سرد الشذرات كامتحان له ، وسيقوم الحوار بالكشف عن قدرة هذا الواصف على المحاججة في قضايا عدة أبرزها مكانة الموصوف عند الأدباء ، لدرجة حملت الواصف على الإعتراف بأدب قابل للتحليل سيصطلح عليه {أدب الحمار } ،وأمسى الحمار على قدرة على استدعاء معرفة تبعد عنه تهمة الغباء لما أعلن لمحاوره قوته الدفاعية والمعرفية ، يقول :{ إذن أبلغ زملاءك في دروب الكلمة أنني لن أسكت عن أي لغو يطعن في كرامتي } فهو هنا يعني استعداده لقوة موجودة فيه سلفا ، ليس له إلا أن يستدعيها ، يقول :{ من هذا الفضاء ...أبدأ .سئل قبل أعوام رجل حكيم في
حوار عما يفضل من الحيوان فاختار الكلب لوفائه وإخلاصه .} من هنا يتضح أن استحضار كلام الرجل الحكيم له دلالة الصدق والقوة ، تكسب القائل احترام وثقة المتلقي.وهي بداية للتمرد على الصمت والتي لا تكون إلا بفعل الكلام وتداعيات المعرفة.
خلاصـة :
لقد طرح محمد إدارغة صيغة في الكتابة أ شد استفزازا لواقع القهر والزيف .فعبر عنه من خلال رمزية الموصوف وهو الحمار ... فجاء النص ليسخر من الثابت والمستقر في حياة الناس ، دون أن يسقط في الانتقاد الفج للواقع ، بل حاول أن يتجاوز نظرة المضامين إلى خلق رؤية خاصة للحياة, معتمدا على بنية سردية تدعمها التداعيات الساكنة جرحا في ذات الكاتب ..فحاول أن يجعل لها شكلا يمتح من الثقافة الشعبية والدينية والرمزية والأدبية... مما جعل النص ينفتح على قراءات متنوعة ومتعددة ..وهذا معطى أساس لكل إبداع ناجح..
إدريس زايدي