الخطأ النحوي
(أيتها اللغة، كوني بردا وسلاما على ذاكرتي)
وجه تشكلت عليه التجاعيد سيولا رقيقة، وعينان غائرتان لامعتان ترسم بعدا خريفيا بين عقله الحاد وملامح الحزن البادية على رفوف قسماته.
وبين هذا وذاك نشر جسده النحيف ظلا مرميا على سجادة متواضعة، ظل عكسه المصباح الكهربائي في حنان، وامتصته الأرض في امتعاض. المسافة الفاصلة بين انتظاره وعودة زوجته بالقهوة، تبدو شيئا ما طويلة، وقد أحس بتعب يسري في عروقه بذلك القلم الذي لا يفرق أنامله. وكي يكسر الصمت الجليدي، مد يده في حركة ثقيلة إلى " الراديو" بجانبه، أدار الزر:
- "...والآن سندعوكم للسهر معنا، وقد اخترنا لكم هذه المنوعات..."
حط القلم جانبا، الورقة أمامه لم ينته منها بعد...تنفس بعمق،ثم استرخى قليلا ينصت للموسيقى...
الجو البارد، والليل الأسود الغارق في صمت خانق يذكرانه بطفولته التي توزعت بين الوديان، والأشجار، والمدرسة القديمة/ الجحيم ( بالنسبة له على الأقل )... كل اللحظات التي مرت به يتذكرها جيدا، تعصره بقوة، وتفتح أمامه بابا كم تمنى ألا يفتح، ذكرياته تبدو واهنة معربدة، تتقطر من دمه لحظة، لحظة، كل دقيقة كانت تمر إلا وتحمل ألما وأملا، تزرع في عنفوانه يأسا دون الأوان... لا تزال ملامح معلمه القاسية مرسومة في لوحة من لوحات ذاكرته، معلمه " سي جلال " يظل دائما الشبح الذي لا يموت.
يتحسس وجهه، يتذكر صفعاته، يتذكر العصا الغليظة التي طالما تكسرت على ظهره. يتذكر صاحبه الذي انقطع عن الدراسة يوم علقه " سي جلا ل " من رجليه مدة ربع ساعة، حتى كاد أن يفقد بصره.
يتنهد بعمق، تغزو أفكاره كلمات عابرة:
»آه كم تمرالأيام بسرعة،وتتوارى الأحلام في تجاعيدنا، فننسى الطموحات، ننسى الأوهام التي كانت يوما ما، أمنيات لذيذة«.
ينقطع شريط أفكاره بصوت المذيعة:
- " والآن مع رائعة من روائع أم كلثوم ..."
مرة أخرى يذوب في صمته، تجره الألحان من العالم الذي تركه أمامه، عالم الورق، إلى عالم آخر قد يكون حلما يبدأ من نهايته أو ربما الحلم يريد أن ينتهي بهذه السرعة.
المصابيح الحمراء تدثر كامل جسده، الأحلام تتراقص أمامه وهاجة تحت سقف مرصع، الأضواء المنكسرة خيوطا صفراء، وحمراء، وزرقاء على صفحة الزجاج المطلي بنكهة المرايا، يتشابك الحنين بدقات قلبه، يذوب لونا قاتما في شرود الذهن والكلمات المنهوكة، فينكسر- أو ربما ينفتح – شيء في داخله، في ذاته، فتختلط به الصور، ويغوص في ذلك اللون المنبعث من ثريا متحركة تتدلى من سقف المرقص.
- هل تريد المزيد؟
- لا شكرا...
- تعبان؟
- أتعبني الضجيج والموسيقى الصاخبة.
- سيغيرونها بأخرى هادئة تعجبك.
- ربما ...
- إذن هيا نرقص...
ينسى نفسه، ينسى زجاجة " الويسكي " على الطاولة، يقوم مسترخيا، يعانقها ويهتز بشكل يوحي بفضاء حزين في عينيه، وجهه يردد حكايات لكل الناس، أو بالأحرى حكايته التي تشبه حكايات بعض الناس.
كان الحلم أكبر منه، والرقص بالنسبة له، حلم غابر في عنفوانه، وفي أمله، كم خامره أيام صباه، لعله يعود الآن، بتلك الوقفة الجديدة، أمام فتاة تبرز كل مفاتنها، إلى أيام الحلم/الوهم...
يلتصق بها، وتلتصق به فيفرغ كل مآسيه على صدرها، ويستسلم في استرخاء... توشوش في أذنه:
- ما بك
- لا شيء ... لا شيء...
- يعجبك رقصي؟
- إلى حد ما ...
- إن الواقفون هناك يريدونني
يتحرك، يرفع رأسه عن صدرها، وبسرعة يصحح:
- خطأ..." إن" تنصب ولاترفع. ... كان يجب أن تقولي " إن الواقفين هناك..." تذوب في هستيريا الضحك، ويذوب في صمت قاتل، كل همه ألا يقع أحد في خطأ نحوي، ألا تقال كلمة مغايرة لما هو موجود في قواميس اللغة، ألا يهتم إلا بالنحو، والنحو وحده.
المرقص لا يزال جاثما، خانقا، الدخان يملأ صدور الراقصين، ثم يخرج من أفواههم منكسرا معربدا فيملأ الحانة ضبابا.
يعود لطاولته... يرشف من كأس الخمر أمامه، يتلذذ، يستغل كل لحظة تمر به، ينظر في عمق القاعة، وكأنه يبحث عن شيء، ربما يبحث عن ذاته المروجة بين الكراسي والزجاجات ونكهة الخمر، الحركة في مد وجزر، والكلمات ثقيلة تخرج من أفواه تعبق الجو برائحة النبيذ.
لا يزال هناك على كرسيه، يمتحن نفسه في هدوء، يجتر مزيدا من الألم والأمل، يوجه نظرات ثاقبة نحو الجميع، شيء ما يعذبه، يدغدغه، حركته الداخلية توحي باضطراب عميق يتشكل على صفحة وجهه ملامح عبوسة، معدته تهتز، لا محالة سيتقيأ... لكن سيتقيأ ماذا؟ سؤال فجر نفسه في نفسه فجأة، وارتمى في مكامن الاضطراب لعله ينفجر، قلبه يدق بعنف، عذاب خفي يمزق صدره، يجعل من ذكرياته ولحظته الراهنة قوة للانفجار... أهي الأضواء تتعب عينيه؟ أهو الدخان يعرقل تنفسه؟ إنه شيء آخر أكبر منه... أكبر من ذاته... فيسلم العنان لأفكاره، لم يعد يفكر إلا في الشيء الذي يحرمه من التلذذ بهذه اللحظات التي قد لا تعود أبدا.
فجأة يسمع في إحدى الزوايا رجلا يشتكي لفتاة تداعب شواربه:
- لقد خدعوني الأصدقاء...
وكأن الصاعقة تشق قلبه شطرين، يقف، يضرب على الطاولة بعنف، ويصيح بأعلى صوته:
- للمرة الثانية تخطئون.."لقد خدعني الأصدقاء" وليس "خدعوني..."ويضيف بلهفة عارمة لتفجير الذات، لتفجير مكامن حياته:
- لماذا تخطئون؟ النحو شيء ضروري، يجب التركيز على النحو، إن اللغة هي النحو.
لقد انفجر، أو لعله الشيء الذي يعذبه، فراح في دوامة من الشتائم والتصحيحات، يردد القواعد النحوية، يأتي بأمثلة توضيحية، ينتفض بعنف، لا يريد لهذه اللحظة أن تنفلت منه، يجب أن يعرف الجميع أن النحو هو كل شيء، إنه يعيش من أجل النحو، وسيموت في النحو...
السكارى ينظرون إليه في دهشة، صامتون، قابعون في زوايا المرقص، يتساءلون عن الضيف الجديد.
يستمر في إعطاء الدروس النحوية، يبحث في جيبه عن "الطبشور" لا يجد شيئا، يتوجه نحو السبورة...لا شيء غير الأسوار الملونة والأضواء الكثيرة...
تأتي إليه الراقصة لتهدئته، تضع يدها على كتفه فيتوقف.
إنها زوجته توقظه من النوم بعد أن عادت إليه بالقهوة...
يبتسم في وجهها ابتسامة خفيفة، ينظر أمامه، لا تزال الورقة ناقصة، والساعة تشير إلى الثانية عشر ليلا، يأخذ القلم في استرخاء ليتمم جذاذته استعدادا لدرس الغد.
الحسيمــة/ المغربــ