يمد بصره الخاشع إلى بحار عينيكِ المتدلية من السماء لعلها تمده بجواب ما، لعله يجد في مياه عينيك إيجاباتٍ لأسئلته الدائرية، ليتسائل ما سر هذا البريق الذي يقصف بدواخل عينيكِ؟ كمنارة وحيدة داخل ظلمة الوجود.. إنه بريق يقصف ما تبقى من سيادته على حواسه فتصاب حواسه بالفوضى والاضطراب، كلما تلألأ هذا البريق وجد فكره يغوص في بحث عن القائم والمحتمل في زوايا عينيكِ الحادتين .. كل شيء فيك حاد.. منطقة انعطاف الوردي والابيض في شفتيكِ.. نهايات أصابعك، خصلات شعرك، مشيك وخطوك حاد، إنك امرأة تتشكل من حدود حادة ومن أنصاف دوائر، تضع كل شيء في مجال ضيق لتحكم السيطرة.. وتضع كل شيئ بين قوسين للتعبير عن الحرية وقوة الإرادة..
هو يفهم من أنصاف الدوائر أنها الشكل الهندسي الأكثر صلاحية وجمالا لرسم امراة عكس ما كان يقوم به التكعيبيون من تسطيح للمرأة، وحرمانها من أجمل ما فيها: العمق.. أنت امراة عميقة، تعشق السفنُ الموتَ الأبدي بعمقها، أنت امرأة تضع كل شيء بين الاقواس دلالة على الإمكان والاحتمال، فلا شيء قطعي، متواصل، ثابت، إنك تتحركين داخل زاوية حادة ليظل "هو" حبيس رأس الزاوية، حيث عيناه أسيرتا مجال رؤيتكِ لا يرايا غيركِ..
يداكِ الرقيقتان تحملان شكلان سريان، يحيلان في معناهما الاولي على التقابل المكاني والزماني، والجهي إنه تقابل يضعني قاب قوسين بين حد المستحيل وحد الممكن.. هما ٨ ١ في اليمين و٨١ في اليسار، هل هي رغبة في السمو والتوجه نحو الأعلى..؟ هما رقمان يجمعان بين خط مستقيم وزاوية حادة.. إنها الرغبة في الهيمنة والإطباق والفهم الضيق وسياسة البقاء قريبا.. إنه تقارب بين ثلاثة خطوط واحد مستقيم واثنان مائلان متعاكسان يلتقيان رأسيا، قد يكون الالتقاءُ تكاملَ حيزين، موازٍِ لزمن خطي، قد يكون التقاء كائنين أوانتظار التقاء يظل قائما على طول خط الحياة.. إنه الرقم واحد الذي يمثل مبدأ التناغم الكوني، والعلة الفاعلة في كل شيء، إنك الرقم واحد الذي ينظم علل وجودي، أما الخطان الاخران فقد يمثلان الرقمَ إثنين المتحقق في خلق كل شيء من زوجين اثنين من خلال البحث عن النصف الاخر الذي سيغطي كل الثقوب والبياضات ويغلق القوس المفتوح منذ الميلاد ويوقف دوران الدائرة حول نفسها بحثا عن نصف..
هكذا تسارعت الأفكار إلى ذهنه ثم استدرك: ولكن ما يثيرني هو مجموع هذين العددين الذي يساوي 9 فهو مدة حمل الانسان وهو عدد كواكب المجموعة الشمسية التي نحيا بين دفتيها.. إنه رقم يرتبط بالانسان بصفة عامة بل بالمنظومة التي يحيا عليها هذا الإنسان تائها فيها متماهيا معها، مما يمنحني مشروعية الغوص في عالمكِ الذي يمطرني بالاسئلة خصوصا عندما يوجد داخل خصوصية سياقاتكِ: لماذا هذا الرقم بصفة خاصة؟ داخل أي سياق تتولد دلالته لديكِ؟ من أين يستمد قيمته عندكِ؟ العدد 36، الذي هو الاخر مجموعه هو 9، يتكون من الرقم ثلاثة، فالثالث يجمع بين طرفين متعارضين باعتباره وسطا، ومن تم يحيل على حدث له بداية ووسط ونهاية، فهل انتهى فعلا؟ أم أن مجرد الاحتفاظ بهذا الرقم لتنشيط الذاكرة يمثل عدم انتهاء الحدث؟ أما الرقم ستة فقد يعني بمعنى ما الكمال أوالتكامل، فهو حصيلة ضرب 2 في 3، قد يحيل على الزواج أوالتزاوج، فالعدد الزوجي مؤنث بينما العدد الفردي فهو مذكر.. ومجموع العددين هو العدد تسعة من جديد.. هي أرقام بزوايا حادة تقطع أوصالي وأنصاف دوائرتجعلني عرضة للحيرة المفتوحة كما العادة..؟
ومضى من جديد في محاولاته ليكتشف أن ما يمكن أن يربطكِ بذلك الرقم ليس أكثر من الشك أوالعطاء أوالنصر..؟
..صامتا متواريا تلفظه الأزقة والشوارع، يتأمل ما يحدِثه غيابكِ من تداعٍٍِِ للمعاني بداخله، يتورط في الدخول إلى عالم لا يعرف عنه إلا ما يشاهده لحظتها.. سواد تكسره أعمدة الإنارة العمومية وصمت مخيم على المكان، وغيابات أخرى تحيله على أشياء اخرى تؤدي إليكِ..
ينظر هنا وهناك بحثا عن معنى يجنبه تكاليف التأويل الذي يخشى أن يورطه في رؤية الأشياء على حقيقتها لأن للحقيقة وجهان فقط هما: أنتِ الحاضرة وأنت الغائبةِ.. التي تستنفر كل حواسه في لحظة ما في مكان ما.. لما يكون ما بداخله يمتد خارجيا يتحقق مطابقا لنموذجه ويجعله يحيا "الكاووس"، يحيا فقدان المعنى.. في بحث سريري عن معنى ما يحدث له من جراء غيابكِ..
وهو يمضي، داهمه ضوء قوي من مصابيح سيارة من حجم كبير، بيضاء عليها خطان مائلان بالأحمر والاخضر: "توقف تعالى هنا، بطاقة هويتك.." لم يُعِرهم أدنى اهتمام فالعواطف لا تحتاج إلى الجمارك والبوليس لكي تُحد أو تُوجه لا مجال للمنع ولا للتراجع.. سألوه:"ماذا تفعل هنا في هذا المكان والزمان" ابتسم قبل أن يجيب:" إذا كان المشكل في المكان والزمان، فإننا دائما ما نكون في مكان ما في زمان ما.. أليس كذلك؟ إنني أتأمل.."
- وماذا تتأمل يا سعادة الفيلسوف؟
- "أتأمل امرأة.."
- يبدو أنك في كامل التفرغ سعادتك؟ فهي اصعد معنا سنقلك إلى مكان يصلح أكثر للتفلسف، وسنجنبك عناء طرح الأسئلة، فستكون مهمتك فقط الإجابة..
- حسنا فمن الصعب أن نطرح الأسئلة المفترضة في الآخرين على انفسنا.. ومن الضعف أن لا نجيب على أسئلة نتمنى أن يطرحها الآخرون علينا..
وصعد ذلك المكان المضيء الفسيح، وهو ينشد أبياتا لابن زيدون، لغاية في نفس يعقوب: إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا **والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا .وللنسيم اعتلال في أصائله** كأنما رق لي فاعتل اشفاقا. والروض عن مائه الفضي مبتسم **كما شققت عن اللبات أطواقا. نلهو بما يستميل العين من زهر**جال الندى فيه حتى مال أعناقا. كأن أعينه إذ عاينتْ أرَقي **بكتْ لِما بي فجال الدمع رقراقا. ورد تألق في ضاحي منابته**فازداد منه الضحى في العين إشراقا. سَرى ينافحه نيلوفر عبق **وسنان نبه منه الصبح أحداقا. كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا **إليكِ، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا. لاسكن الله قلبا عق ذكركم*** فلم يطر بجناح الشوق خفاقا. لو شاء حملِي نسيمُ الريح حين سرى** وافاكمُ بفتى أضناه مالاقى. يوم كأيام لذات لنا انصرمت ***بتنا لها حين نام الدهر سراقا. لو كان وَفَى المنى في جمعنا بكمُ ***لكان من أكرم الأيام أخلاقا. ياعلقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى *** نفسي إذا مااقتنى الأحباب أعلاقا. فالآن أحمد ماكنا لعهدكمُ ***سلوتمُ وبقينا نحن عشاقا..
وجد نفسه في مكان ضيق غامق، قاتم، أسود اللون بمعنى اللا لون.. بدأ يتأمل المكان فرمق بقعة حمراء على الحائط.ِ غط َفي سهو عميق يتأمل ثم ابتسم، لأن هذا المكان الكئيب سيتكرر عليه يوميا بل لحظيا ما دامت تقود إليه تهمة التفكير في امرأة، لأنه سيظل يفكر فيها.. فما ذنبه إذا كانت توجد في كل شيء وزمان ومكان تملأ فراغ عالمه، توجد بداخله وتمتد خارجه.. توجد في الأشكال والألوان والزوايا والارقام ؟
..في الشارع وحيدا ينظر إلى مصابيح أعمدة الإنارة الممتددة كطريق سيار في السماء، تنفس الصعداء: لو كانت تلك طريقا فعليا فإلى أين تقود؟ ياله من جنون أن تجد نفسك في أماكن عدة متباينة بفعل امرأة؟ إنها فوضى جميلة يحدثها النظر في عينيكِ، غائبة كنتِ أم حاضرة، ثانيةٌ من النظر في عينيكِ تؤَجل الوجود وتوقف الزمن، تجعلُكَ تحلق لساعات في السماء.. عيناها اللتان تستمد منهما الأشياء شرعية الوجود والمعنى، إنها امرأة تعشق ارتداء الأحمر.. وكلما رأيتُ الأحمر تذكرتها.. وإن كان هذا السواد الذي يلفني هو الآخر لا يحيلني إلا عليها، على السواد والكحل في عينيها، إنها امرأة تحضر في كل الألوان والأشكال والصور لا اقل ولا أكثر.. إنها تمثل الرقم واحد رمز التناغم الكوني وتجعل من كومة وجودي غير المُشَكلة، مادةً ذات شكل ولون ومعنى، إنها أنتِ التي تتعدى حدود الوجود في ذاتها، لتوجد في العالم وفيﱠ.. دائمة الحظور ودائمة الغياب، تخلفين وراءكِ عالما من الأسئلة والجمال يحوم حول رأسي ويدخلني شهوة السؤال الحارق، فتحترق كل الأشياء الجميلة من حولي وداخلي.. ولا يغدو فهمي للجمال غير ذلك الذي هو أنتِ .. فأتابع خطوك بدقة وتركيز وكأنني أنتشي بقراءة قصيدة شعر، بدءا من شعرك الأسود إلى ما لا نهاية معانيك، تستقيمين كنافورة من مرمر ورخام تفيض بماء أسود هو شعركِ، الذي كلما تهاطل أمامي، شعرتُ بأن البحر يلطمني ويضمني إليه فأستسلم للغرق، غرق جميل يعيشه الإنسان وهو يتنفس عطركِ والهواء الذي تتنفسين، عطركِ المتناثر حول فضاءاتكِ كعبق زهر بري لا يملك الإنسان إلا أن يتنفسه بكل جوارحه وحواسه لتتعطل كل الحواس من نشوة تلك اللحظة !
من أنتِ لتفعلي بي كل هذا؟ إذا ابتعدتِ عني خطوة تنتفظ خلايايا شوقا لكِ وتعلنُ ظمأها تحت رحمة كفيكِ وخدك وشعرك الذي كانت روحي تكاد تذهب مع الريح لتراقص خصلات شعرك المتطاير أمامي.. دون أن تكثرتي لكل هذا !!
أنتِ بحر ميناءه مليء بالتاريخ والمجد وحروب التحرير، فأسوار قلاعك العالية كقامتك تشي بهذا الكنز الذي تخفين في حصونكِ و تشهد على المطامع المتكررة في غزوكِ واجتياحكِ. والهواء البحري يهب علي كلما جلستُ قبالة خليجي عينيك فتشتاق مراكبي المعطلة من سنين إلى الإبحار فقط من أجل الغرق النهائي في صدرك..
أنا وطن يعلن انتمائه طوعيا إليك أيتها المرأة بحجم المدينة بعدما كتب بيانا ضد الإستقلال، فقط لأنه عشق البحر وهو يعلم أن البحر لا يقتل إلا عشاقه! أنتِ البحر كلما غرقتُ في أسره أشعر بالتحرر، فأسرِِيني لأن الأسر في عمقكِ مهما ضاق هو حرية ولأن الموت في دواخلكِ هو الحياة ولأن التشبت بأشيائكِ الجميلة، يداك، شعرك، بعضك .. كلكِ، هو ما يجعل الحياة جميلة والعبودية جميلة والوجود جميلا.. كلما نظرتُ إلى منطقة من مناطق نفوذك، استعدتُ عالما فائضا بالجمال وصهيل الخيل وحقول القطن ورائحة الزيتون، أجد فيك انتماءً إلى المدينة والحضارة وارتدادا إلى الأصول المشرقية، فأرى في عينيكِ نجمتان تشعان على صحرائي وأرى على شفتيك خمرا معتقا وعسلا، وأرى قافلة من الدر تطوف حول معصمكِ وأرى سيوفا تشهر من جسدي ويلتمع بريقها في عيني كلما اقترب أحد من حدودك..
كلما نظرتُ إلى شعرك أوخدك أوكفك أوإحدى مكامن الجمال الخاضعة لسيادتك رفرف قلبي كعلم يود أن يكون رمزا لمملكتكِ، وغزلَت الكلماتُ من حبالي الصوتية رداءا أميريا لك، وصار الصمت بداخلي سمفونية إعجاب تعزف لك النشيد الرسمي وأنت تدخلين الأعماق وتتوغلين بكل جلالك في أوردتي كالماء رويدا رويدا .. لأستعيد الإخضرار والحياة وأتحرر من حصوني المنيعة وقضبان "الأنا الأعلى" الحديدية وأعلن عبوديتي لك كأرقى شكل من أشكال الحرية..
إنه الرجل الذي تتسع عيناه لتراك بحجمك الحقيقي، وتتسابق حواسه لتعلن عبوديتها لكِ.. وإنكِ لامرأة تحترف اختيار الألوان والأشكال، لتبسط سلطتها الرمزية عليها، لا ليستحقها كل من رآها ولكن لمن يتأملها وهو مغمض العينين، فحجمك الحقيقي يمتد في الزمن والوجود وليس في الجسد والمكان، وهذا الرجل قد خضع لسلطانك الذي وسع كل شيء في وجوده المتشظي، من أجل أن تعيد يداك تنسيق وترتيب قطعه المتناثرة في الزمان والمكان.
إلى "فاء/زاي" فتنةالأحمر ومعنى الأشياء