بعدما ضاقت به الطرق وجد نفسه يدفع خطواته المتعبة عبر شارع مظلم طويل، يعمه صمت مهول، وهدوء مهول، ورتابة مملة، لكن نهاية الشارع ما تزال بعيدة..
الرصيف بارد، والظل الشاحب يتبع خطو صاحبه، ساخطا لكنه لا يملك إلا أن يتبع صاحبه، لأنه جزء لا يتجزأ منه، فكيف يتخلى عنه في لحظة مظلمة كهاته التي تبدو بلا نهاية..
استدار جنبا ليرى خياله المصر على مرافقته، حملق فيه مليا، ثم استمر في المسير فلا شيء يستحق التوقف.. أبدى عدم اكثراته بظله، ثم انخرط في حديث
- لكن لماذا تتبعني يا هذا الذي تشبهني إلى كل مكان؟
- لكن لماذا أنت الذي تسبقني إلى كل مكان؟
استرسل في مسيره، تتقاطع به الطرق بين ما هو كائن، وبين ما ينبغي أن يكون.. كيف يحافظ على ظله؟ وهل من الضروري أن يحافظ عليه؟ وكيف يتخلص منه؟
فجأة يجد نفسه وجها لوجه مع ظله، ليسائله من جديد يا هذا ما تريد مني؟
فيجيبه الظل يا أنت ماذا تريد ليس مني ولكن من الحياة؟
- فعلا ما الذي نريده من هانه الحياة هو سؤال وجيه لم أطرحه على نفسي ولا مرة، أجاب بمكر لا أريد أن اعيش مثلك أيها الظل، ظلا..
- و ما العيب في أن تكون ظلا؟
- للظل وجهان فهو لا يظهر إلا في النور ويختفي في الظلام وكأنه وجه آخر للنور رغم كونه قمة السواد والعتمة، إنه يحاول أن يوهمنا بكونه وليد الظروف وأنه يرتبط بالخير والضياء والوضوح والصفاء.. إنه لا ملامح له فهو مجهول بإمكانه ان يخفي مشاعره أن يسوق نفسه أن ينافق بحيث لا يمكننا ان نعرف عنه إلا ما يريد أن يبدي، وماذا يبدي غير السواد والشحوب؟ إن الظل انسان هلامي وخام، داكن وبارد، ممثل وكاذب، كائن يشبه الفطريات.. يمتد ويأتلق لما يكون صاحبه في وضعية صعبة: تحت شمس حارة، أو لهيب جهنمي..
الوجه الثاني للظل أنه أحادي السمك لا تدرك هل ما يبدو منه هو شكله أوماهيته؟ إنه دائم النط، فلما تطلبه تجده ممتدا طويلا أضعاف القامة، ولما تستغني عنه تراه صغيرا قصيرا ذليلا.. ولما تحاول مصالحته يتمنع.. كلما حاولت ان تطابق بينك وبينه، تجده يشاكس ويماكس لينسل منك بكل ليونة، ولما تتركه لحال سبيله ليكاد يتشبت بأبسط أشيائكَ ولا ينصرف عنك إلا مكرها..
لكنني حتى اللحظة لا أقدر أن أستغني عنه تماما..؟
وهو يمضي في الشارع الطويل، تستوقفه علامة حمراء كتب عليها قف.. تلقف ما فيها من دلالات لكنه لم يكثرت بها، تابع المسير وهو يقول إنها لا توجد قوة في العالم توقف مسيره ليقطع هذا الدرب الذي قَبِِل منذ البدء رهان اجتيازه..
لكن أول ما عليه أن يتخلص منه هو الظل إنه ينهك قواه، بل إن الظل صار يحاول المسير عكس صاحبه، ويثبطه عن مراميه..
- يا هذا الظل لا تكن أحمقا وعنيدا، فأنا في سباق مع الزمن للخروج من هذا النفق المظلم، أفلا تفهم أن هذا في صالحك؟ ألا تفهم أنه بخروجي من هذه العتمة أريد الخروج بك إلى النور، حيث النور يمنحكَ الظهور والجلاء؟ ولكن لماذا أصلا أكون معنيا بامركَ؟ فعلى الأقل لستَ وحدك الظلُ في هذا الوجود، كثيرة الظلال التي تحيط بنا وتحيطنا؟ لماذا أكون معنيا بأمرك في وقت تكون فيه أنت غير معني بأمر نفسكَ، وإلا لما كلما حاولت الاسراع في المسير أثقلتَني، وتمنعتَ عن اتباعي؟؟
استمر على الخط.. يحاور ظلَه ناسيا أن في هاته المحاورات قبول انهزاميٌ بالظل، فهو ما يزال يحمله معه ويكون في موعد معه بعد ما تنقشع أَخْفَتُ خيوط النور.
- ما الحيلة التي تنفعني لتجاوز الظل والانفلات من قبضته المحكمة علي؟ ليس لدي حل غير الاستمرار في الظلام، فأغيبه من الوجود معي، لكن هذا لا يعني نهائيا أنني طرحتُه عني، فهو سيكون غائبا ولكن سيظل موجودا، فل أخرجه من الظلمات إلى النور، لعله بتحققه يُلْغىَ؟ لكن هل ما يزال يستحق أن أضحي بنفسي من أجله؟ وهو الظل الذي لا يكف عن التزيِ والتخفي والظهور بمظهر القديسين بتلك العمامة الداكنة، التي لا تبوح بشيء رغم أنها توحي بأشياء، من قبيل المحاولات الدائمة بإقناعنا بتلاشي الفروق والاختلافات والتمييز والعنصرية.. وكأنها تقول أنا الطهارة انا الخير انا المطلق، ولكنها لا تبدي لنا إلا وجهها كما الظل أما عمقَها فيخفيه ويحجبُه طُهرُ سطحها، إنها تقول عن نفسها، وتعتقد في نفسها، ما ليس فيها.. وإلا على الأقل ما كانت مضطرة لأن تقول كل ذلك فالشكل ظاهري، لا يحتاج إلى التسويق؟ أما الباطن فهو نقيض الظاهر قد يطابق الشكل أو لا يطابقه، فهو يحتاج لغيره لتسويق ذاته.. وهو ما يجعل من الشكل والظاهر والأنا مركز اهتمامات الباطن..؟
ما يزال –داخل نسق حواراته- يسير في ذلك الخط المستقيم نحو نور تلك الشمس التي تبدو بعيدة، يرمي بخطوات ثقال نحو مركز النور، لم يصل بعد إلى درجة التفكير في التخلي عن ظله، إنه رغم إكراهات الظل، ما يزال يسعى إلى النور ليتحقق الظل، وبتحقق الظل سيفهم الظل أن صاحبه ما كان يسعى إلا لمصلحته، وفي مصلحته، مصلحةُ صاحبه..
يمشي وهو يحاور ظله، ويتقبل منه كل مضايقاته، لأن الغاية هي التأكيد على كونه كائنا يعرف مصلحة ظله أكثر من غيره، فهو ملزم بتحمله إلى أن يوصله إلى النور والتحقق.. لأنه وحده القادر على رؤية جمال الظل وفهمه والانصياع لقراراته، ما دام الظل وجودا في النور، ما دام سيوجد في النور والضياء، فتتلاشى حدود الظل والنور ليحل الظل في النور ويغدو مرآة له، فيغدو الظل هو الكائن الحقيقي بينما يغدو صاحب الظل ظلا لظله، وتابعا وديعا له..
في لحظة ما أدرك أن نورا يقترب إليه.. بل تتوالى عليه عدة مصابيح، يحملها نساء من شكل ما، يبدو أنه رآهم في مكان ما.. ولكنه يرفض الاستنارة بنورهن وإن كان فيه الخلاص، ترتدي كل واحدة منهن لونا ما، مختلف عن كل الأخريات، إنهن نساء –ظاهريا- يبدو أنهن أحاديات الأبعاد وهو يرفض كل شيء لا يساوي إلا ذاته، أي ذا بعد واحد، وإن كانت عيناه من تضفي الأبعاد، فنظرتُه قد أضفت كل المعاني على أخرى، إن عينيه أكثر ارتباطا وإخلاصا وصدقا منه.. تمر بمحاذاته امراة ترتدي اللون الأحمر، لكنها لا تحمل مصباحا، النور يشع من جهتها، إنها تحمل في يمينها نقطة وتحمل في يسارها خطا، خيرته بين الخط، حيث أن يستمر في المسير تجاه النور المطلوب، وبين النقطة، فيتوقف هناك متعزيا بكونه فعل كل ما يملك دون جدوى.. وعليه أن ينظر إلى الخلف باعتباره أماما جديدا ومغايرا، فيختار أول حاملة لمصدر نور ولو كان فتيلا أو شمعة، يساعده على تحقيق ظله والتطابق معه.. نظر إليها مليا، بعدما فكر في كونه ما يزال مشدودا إلى الأمام، إلى مصدر النور الأصلي، لكنه إذا اضطر إلى الرجوع إلى الخلف فسيلقي عرضة الحائط بمطلبه وينسى كليا ما سيصير "الخلف" والماضي، ويستنير بأول من تقدم له النورَ كيفما كان حجم هذا النور، فمن الحماقة ان تعف عما يُعطى لتطلب ما لن يُعطى.. أعاد النقطة والخط إلى يديها الرقيقتين كأجنحة الفراش، وضع كفه على ظهر رأسه هز منكبيه، واستدار بالقفا ثم همس "الأهم هو أن يتحقق الظل على الأقل لكي يُلغى، أنا رجل قد اختار الخط رغم تكاليف الوفاء ولكِ أن تختاري الخط أو أن تضعي النقطة" واستمر في المسير..
إليك حيثما انت، حيثما يوجد الأحمر
زس