اليوم عيد ميلاده.. الحدث الأدنى أهمية والأقل شأنا في حياته.. بالنسبة له: إن هي إلا حياتنا الأولى نموت فيها ونحيا، منذ ميلاده لم يهتم بهذا اليوم إلا مرات قليلة كانت تصادف أحداثا مهمة، حيث كان يغتنم هاته الفرصة ليحتفل بتلك الأحداث وليس بعيد ميلاده إنه كان يحتفل بحضور أشياء أو أشخاص يهمونه بمعنى من المعاني وبمستويات مختلفة..
اليوم يصادف غيابكِ التام والكلي عن الواجهات الزجاجية لحياته.. تصله التهاني من هنا وهناك، وهو يقبل على تقديس الغياب وعبادة الآلهة التي لا تأتي، غياب وفراغ تام في كل الأشياء والأحداث والأماكن، لا مكان يتسع ليضم بعضا من أنفاسه التي ألهبتها نار الحيرة.
يفر إلى الشارع العمومي، ليتأمل الوجوه المختلفة، يبدو النفاق جوا مخيما على العلاقات، ويبدو الحزن مناخا يسود المدينة.. مدينة مشيدة عبر التاريخ من أحزان الناس وبؤسهم واضطهادهم ، مدينة عالية الأسوار تجثم على صدره إلى أقصى الحدود لكنه يحبها يعشقها ويتمنى الموت بين أحضانها.. مدينة –للأسف- لا تعيره أدنى اهتمام، مهما مشى ثملا بحبها، أو نط متلويا من وقع نار سكنها اياه،يتبع سكتها التي لا تقوده إلا إلى باب المحال..
تجره خطواته المتثاقلة، إلى ساحة الهديم، ساحة تحفظ تحت اسمنتها البارد تاريخ الأحزان.. خطوات معدودة ليجد نفسه أمام ذلك الباب الجبار المسمى باسم المنصور، يستغرب: "عجبا كيف تكون البوابات كبيرة وشاهقة وجميلة ولا يستطيع إنسان بسيط الدخول؟ ولكن لماذا يبنى الملوك مثل هاته الأبواب العالية، ألأن حجمهم المعنوي أكبر بكثير من وجودهم المادي؟ كيف يعطي الملوك كل هاته السلطة لأشياء بسيطة.. لتتجبر على الناس فيما بعد؟ بل كيف يعطي الناس السلطة لأشياء هم أعلى وأعظم من أن تتلاعب بهم بلا اكتراث..؟
أيها الباب لست عاليا كثيرا ولست عظيما كثيرا ولست جميلا كثيرا، إنما خيالات الناس من تعظم من أمرك، أنت عنصري تفصل بين الناس وأنت غير بريء ولا نقي السريرة، تخفي بداخلك ما تخاف أن يبدو.. أنا عكسك طاهر صادق عاري.. الأكثر أنني أكلمك وأنت تنكب على الصمت تتلذذ بما أقول دون أن تقول شيئا غير محاولات الهروب إلى الأمام.. لا تنس أن الهروب إلى الأمام سيقودك إلى الشيخوخة والتأكل وضمور جماليتك وعظمتك فلا يكثرت لك أحد.. ليس في صالحك في ان تطل علي بهذا الوجه الصلب كلما حاولت الالتجاء إليك، أنا من عظمتك وخلدتك في لغتي، أنا من رسمت جمالك بخيالي وقلمي.. أنا خالقُك ومُربيك ومُظهر محاسنك، التي لولاي ما كانت، لأنها بسيطة وموجودة في كل الأبواب.. أنت ككل الأبواب حتى كباب منزلي البسيط، وظيفتك هي وظيفتك منذ الأزل، كنت هنا أو كنت في الصين، كنت من ذهب أو كنت من قصدير..
استدار بالظهر، لن أنهي قصتي معك اليوم.. اليوم أعظم منك ومن نسيانك، أعظم من صمت جدارك المعهود..
يمشي بخطوات متثاقلة، بين حشود الناس الذين حجوا إلى هاته الساحة، لقضاء مختلف حوائجهم.. يمخر عباب الأبدان المترامية هنا وهناك، الساحة كمعرض لعرض التحف البشرية، مؤخرات ومفاتن بالجملة.. تعاقدات ضمنية وبيع وشراء سري.. عيون تلمس وتتصفح.. سارحة في مدارات الوهم والانتشاء.. وخياشيم تنكب على الشم ليس للشم ولكن للتمشق.. أو ليس الشم حاسة الجنس الأولى.. أو ليس النسق الشمي تعرفا ليس على روائح وعطور ولكن على عوالم واستهامات لا متناهية، ألم يصنف علماء النفس الحواس وعينوا بدقة كل حاسة بالمنطقة التي ترتبط بها مباشرة.. فربطوا الشم بغريزة الجنس.. هذه الساحة مريضة.. متعددة الأمراض، الكل يجد فيها داءه منفصلا عنه، متشكلا أمامه..
فر من الساحة بسرعة إلى المقهى الموجود على سطح أحد المباني المطلة على الساحة.. وهو يمضي إلى هناك اشترى له بطاقة بريدية، أثارته الصورة التي عليها، حيث رُسِم عليها بدقة وإتقان امرأة من أحد الأرياف المغاربية، كُتِب تحتها "امرأة مغاربية تقليدية" ترتدي اللحاف تموج عليه خطوط من الأحمر والأسود، لحاف يغطي كل جسدها، يبدو أنها عائدة من بئر أو واد لأنها تحمل جرة ماء من زمن الأندلس، وجهها يحمل بشرا ما، كما تنم ابتسامتها الوليدة غير المكتملة عن سعادة عارمة وصمدية.. لون بشرتها أبيض يميل إلى الصفرة وليست صفرة الشحوب.. عيناها الواسعتان مطوقتان بالكحل الذي يرسم حدود غوايتهما، ويجلي صفاء سمائيهما الصيفي، شفتاها تهلان كإكليل ورد مرصع بالسكر.. ويداها واحتان تتورق الحناء فوق أديمهما كداليات ونخيل وعليق، وأساور منقوشة في معصميها تلتمع تحت أشعة شمس ذهبية، امرأة مابين ثغرها وكدنتها وشم أزرق أصيل على شكل زهر بري يشرأب إلى هلال وردي يرتسم في شفتها السفلى، و يحكي تاريخ شعب أصيل، تذوق مبكرا المعنى الصافي للجمال الخام، للجمال في حالته الطبيعية الأولى، امرأة مزدانة بالحلي والجواهر المنمقة والمنقوشة بنقش أصيل يعرفه جيدا، قلادة من العقيق الأبيض والفضة تطوف حول جيدها كضرب من الثلج المُشكل، وتنزل من رقبتها في انسياب وسلام على صدرها كمياه جدول رقراق، وقرطان طويلان متدليان من شحمة أذنيها، يطلان مع بعض الشعر ذي اللون الأحمر الناري من تحت سبنيتها الحمراء القانتة تنطلق بقوامها الممشوق وقامتها الممتدة من زرقة السماء إلى خضرة الأرض، تنشر ظلها الوردي على مساحة منها، فوق بعض الحشائش والأزهار والنباتات وفراشة.. ابتسامتها ليست مشرعة تماما.. النسيم يجر بعضا من ثوبها الأسود المبرقش ببعض الزخارف على شكل زهور موشومة بخيوط براقة تعكس أشعة الشمس ممتدة من أسفل الثوب نحو الأعلى.. النسيم عرى بعضا من ساقها.. التي تبدو بيضاء تميل إلى الاصفرار، من غير سوء تشع بنور فجري بين سدول ردائها الليلي.. الخلاصة أنها امرأة لم تتلوث بعد بأدران الحضارة.. ومساحيقها البراقة الزائفة، امرأة تعتق كل خمرها، لتثمل وشاعرها الوحيد ثملة مدى الحياة، امرأة تخفي كل شيء لفاتح وحيد، وتهيؤ له مملكة من الذر والجواهر، لا يحلم بها الملوك ولا الغزاة، ولا..
قبل أن يتمم عبارته انهال عليه السؤال: "لكن من يليق بك يامرأة في كامل العفة والطهارة والبهاء؟ نبي لا يأخذه طرب المشتهى.. يا طبيعة في كامل طبعيتها وصدقها، من يليق ليسكن حقول الأقحوان والنرجس فيك؟ حصان لا يكف عن الجموح والصهيل.. يامحارة وردية أي قلب من قلوب البحار قد يسعك؟ قلب أزرق صاف يسع كل تقلبات موجك انفعالك غضبك، شبقك، انطلاقتك..
يكسر عليه نادل المقهى سهوه وشروده، يخرجه من محاورته لتلك اللوحة أو لتلك المرأة التي جعلته يرتدي جبة صوفية ويدخل عالمها المخملي.. "سيدي بماذا تأمر؟"، "خمرا معتقا من زمن عنترة وعمر بن كلثوم لعلي استدر شيطان الشعر ونشوة البوح.." يجيب بدعابة ثم يطلب: "قهوة مضغوطة جيدا سيدي لعلها تبرمني من كل خيبة ا لأمل هاته في هذا اليوم المسمى بهتانا يوم ميلاد"!
إنها خيبته التي يستشعرها من جراء الغياب المألوف لكل عوالم الألفة لديه، هو غريب بهاته المدينة التي تطل عليه بكل سوداوية طلعتها، من سطح المقهى يرى الناس متنى وجماعات يتضاحكون، يتلاعبون، يتداعبون.. أنوار الأعمدة العالية تضيء فضاءات الساحة، بالنسبة إليه من العادي أن يكون النور في الأعلى وأن يكون الظلام في الأسفل، لكن السيئ فيها أن يكون موقعه في الأعلى دونما أن يكون النور والضياء.. يتساءل، من تليق بمثل هذا اليوم لتنهي حقبة طويلة من الفراغ وتخرجه تاريخ الأحزان من بابه الواسع؟ ينظر إلى البطاقة البريدية أمامه، يتأملها جيدا ثم يبتسم وقد تعالى صوت كوكب الشرق صادحا بكل مرارة "أعطيني حريتي أطلق يدي، إنني أعطيت ما استبقيت شيئا، آه من قيدك أدمى معصمي، لما أبقيه وما أبق علي، مع احتفاظي بعهود لم تصنها، وإلى ما الأسر والدنيا لدي؟" يستفيق من سهوه على وقع النادل يقدم له قهوتة الداكنة يرشفها بمرارة مخاطبا اللوحة: "أنت امرأة لا يليق بك لا ملك ولا قيصر ولا إمبراطور، أنت امرأة يليق بك –يسكت يتردد- قلب وروح شاعر".. ينظر إليها بخشوع وتهيب "أقصد أنك أنت المرأة الوحيدة التي أريد وأتمنى، تنبتين داخل جسدي، تتفرعين من كل مساماتي، تسكنين كل أفكاري، ترافقينني في المكان والزمان، تلوذ روحي بالفرار إليك كلما داهمني الخوف والجفاف.. فكري دائم التفرج على صورك المتراكمة بداخلي طوال المدة التي قضيناها مقربين، قلبي دائم الحسرة والانتظار، حضورك الدائم بداخلي وليس في الاشياء الخارجية.. أنت تجرين بشراييني كدمي الأزلي، انت معبودة البوذيين والمجوس وأنا راهبهم، وحلم الرومانسيين وأنا عميدهم، ووطن المهجرين المرحلين المنفيين وإنا أقدمهم، أنت سيدة الوقت وجلالة المكان، أنت مني أكثر مني.. –يتوقف لهنيئة يهز بصره إلى السماء، الذي تخترق النجوم ظلمتها، باعثة بصيصا من النور ثم يسترسل: "قلتُ الكثير الذي مهما كثر يقل أمام عظمتكِ وجلالكِ، قلتُ لمدة طويلة مهما تطل تقصر بمحاذاتكِ.. قلتُ الكثير ولم تفهمي ولو كلمة.. يا حسرتي يا خيبتي يا فاجعتي.. أنتِ امرأة فاتنة لكن من ورق، أنت امرأة حلم في بطاقة بريدية.. بلا قلب ولا سمع.. وأنا رجل مهما فعلتُ وأفعل، لا أهدي البكم ولا أسمع الصم الدعاء.. وهذه حسرتي وكل خيبتي وأزمتي ومأزقي وسوء طالعي، يقول هذا وهو يرتشف ما تبقى من الزبد البني المترسب في أسفل الكأس، يتجرعه بمرارة، لينطلق خارج المقهى، فارا من قبضة غيابك التي عاودته من جديد.. مرتبكا بين أن يحتفظ بالبطاقة أو يتركها على الطاولة..!
16/08/2009
إليك حيثما انت وحيثما يوجد الاحمر