الجسد
(إلى كمال، حين يخسر اللعبة ويعشق الذوبان)
-1-
بين أشلاء المرايا تترامى الحركات في خفة الأيدي التي تتلقف الكرات، والعصي تكسر الصمت المراوغ، وجسد ذائب على كرسي مهترئ يراوغ الارتخاء، عيناه فقط تراقب كل التحركات، الفضاء خانق بدخان التبغ والشيرا، والهياكل القديمة تؤثث لمقهى أنهت مهمتها، بائعو السجائر المهربة في خروج ودخول يتلفضون كل أسمائها في كلمة واحدة مقتضبة، رائحة المرحاض فاضت على أنوف الكل، يتحرك الجسد قليلا ليستوعب فضاءات أوسع، ثم يعود إلى همسات لا ترتفع إلا نادرا، يمسك سيجارة شقراء منذ أكثر من نصف ساعة، لا يشعلها، يمتحنها على الصبر باردة كما كان يفعل حين يهديه أحد علبة كاملة، يسيجه الصمت كما الفراغ الهائل، يهاجر قليلا في ملامح الآخرين، يتفرس طلقات الرؤى في عيونهم، يجمعهم في ذاكرته، والطقوس القديمة في احتفال روتيني، حيث الهروب القهري يتمادى أشكالا مختلفة، يحاول ألا يتذكر شيئا مما تحمله الوجوه من طفولة ساذجة، أو مبهورة بلعبة جاءت هدية من بلاد تبعده كتلة ماء زرقاء.
من حين لآخر يقف، يمرر يده على فخذيه ليمدد كمشات السروال، ينتقل إلى "الكونطوار" يمازح النادل، لا يطلب منه شيئا، يبلل وجهه بالماء، ويعود للجلوس، ينظر الفضاء الواسع حيث الأرصفة تتبلل بقطرات المطر الخفيفة، والسماء تعاكس التوقعات، لزوجة الهواء الرتب تسحب الثقة من حاملي المظلات، الكثيرون ينسونها فوق رؤوسهم حين يتوقف الرذاذ، الشارع يتقيأ الجنسين معا، فتتقيأ ذاكرته.
-2-
المكان بعيد، والزمن خريف، هناك حيث الوديان الظليلة تترامى قطعا ملتوية تحت قامة المرتفعات، والطريق المعبد الوحيد يتلفظ سيارة كل نصف يوم، وحافلة كل أسبوع، حيث السوق يجمع أشتات الفلاحين من كل فج عميق، والأطفال يحتفلون هذا اليوم لما سيأتيهم من حلوى الطحين، أو برتقالة حامضة، أو حتى سمك السردين المحمرة عيناه. اليوم يستريح من محفظته البلاستيكية بعد ستة أيام من المغامرة في الصباح الباكر، والمساء المتأخر، حيث الليل يتهافت قبل وصوله إلى المنزل بنصف ساعة.
يركب مؤخرة الحمار وراء جده، تمر الأشجار بطيئة إلى الوراء، وإيقاع الحوافر المتناغمة في عمق هذا الطريق الضيق تهيؤه لنوم عميق، يرى وجوه عدة تركب البغال، وأخرى في سباق مع الغبار المتطاير، تمسك بذيول الدواب حتى تخفف عنها عبء المسير. في المنحدر ينزلق حتى يلتصق بظهر جده، وفي الطلعة تبعده الجاذبية حتى الدبر، إنه في مد وجزر تحمله لذة الطفولة حتى يصل السوق، وقد اشتاق إلى جرعة ماء ترتب حلقه. وفي المساء حين يعود محمولا بشهوة اللعبة التي شاهدها في قاعة بجوار السوق، يسرح هيمانا على إيقاع تلك الكرات التي تتقاذفها شظايا خشبية من فراغ جانبي إلى وسط ممتلئ، إلى حفرة مظلمة حيث تختفي في جوف لم يفهم كيف تبتلع بهذه الطريقة.
يتراخى جسده، يتدلى رأسه على كتفه، تترك يداه جلاب جده، ثم يفيق على سقطة من على ظهر الحمار، ولا تزال اللعبة تشهيه.
-3-
تتوقف سيارة، يدخل معلم مشاكس، يدغدغ الجسد الذائب من الخلف، يضحك، يقهقه، يهتز بعنف، يلتفت إلى الوراء، يقابله المعلم، يستفزه:
- سأغلبك...
يبتسم الجسد، لا يزال ذائبا على كرسيه الخشبي، لا يقول شيئا سوى تلك البسمة التي تحمل انبثاقا ملغوما، يختزل غموضه، يهرب من الواجهة يسأل :
- سيارتك؟
المعلم المشاكس يخونه الذكاء:
- نعم، تعجبك؟
- ستخسر...
الجسد يرتب الكرات في مثلث أسود، هذا الشكل الهندسي الممل، حيث الرياضات تشهد ضعفه عندما كان تلميذا، أو بالأحرى أيام كان يعجز عن تحديد قياس زواياه، والخطوط المستقيمة التي تعبر النقط على مستوى مسطح، أو في الفضاء.
المعلم يعالج العصا بطبشور أزرق كي لا تنزلق البيضة أثناء التكسير. الدخان في تكاثف والفضاء في اختناق. تمتزج رائحة البراز ببخار الأنفاس، تتحرك نقطة في ذاكرته، تأتيه صيحات الأطفال من بين الطاولات، يتجه نحو تكاثـف الرائحة حيث تلميذ يجلس على فضلاته، يجمع له أدواته، ويخرجه حيث امتصته الوديان، وانقطع عن المدرسة.
تمتزج المشاهد، كرة ترفض الحزام الأخضر، تتدحرج على المرمر الزائف، يتبعها الجسد الذائب، يبحث بين أرجل لاعبي "الكارطة"، نشاز هذه الحركة، يتقوس كقط حين تدللـه...
همسات هنا، وهناك، والازدحام يعيق التحرك. كرتان حمروتان، وواحدة صفراء، لم يبق الكثير، يتهاوى الجسد على كرسيه المفضل في تلذذ، يترقب الحركة الأخيرة، ويلفظ:
- ستخسر...
ينتبه المعلم، يركز أكثر، دقيقة من الانتظار بعدها الكرة السوداء الحاملة لرقم " 8 " تتدحرج في اتجاه الحفرة.. هنا أعلن ولوجها... العيون تستفزها الحركة البطيئة .. ترقب كامل.. الكرة لا تزال في تدحرج، تصل، وتنتهي اللعبة، يعقب الجسد:
- دائما تربح بالحظ.
انفراج هنا بين الطاولات، والسماء تعلن ظهور الشمس الخفيفة، يبتعد المعلم من هذا الفضاء، تقل الرائحة يتنفس خليط الماء والتراب.
الجسد يتذكر لعبة السوق، يقارنها بهذه، ثمة تشابه ما.. يده على جريدة قديمة، لا يقرؤها، يفكر.. تستهويه اللعبتان، لكنه يفضل لذة الذوبان..