قصة قصيرة ــــــــــــ ترنيمة الرجوع الأخير ــــــــــ ( محمد عبدالله الزوي )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تفرق حشد من الناس بعدما حشروها في ذلك المستطيل الضيق ، انتهت مراسم الدفن فتخلف دون الآخرين ، جلس عند موضع رأسها وقوس ظهره بجوار قبرها . . ظل صامتاً منصتاً لقرع نعال المشيعين ، أخذت أصوات النعال تضعف شيئاً فشيئاً ، بكاها بدموع غزيرة من غير صوت ، سأل الله لها الثبات ودعا لها بالمغفرة والرحمة ، تراقصت في ذهنه صور أحداث الليلة الماضية بعدما أحضرت العشاء وجلست قبالته تنظر إليه بثغر باسم . . انطلقت تحدثه عن الذكريات الحلوة . . عن حلقات زواجهما السعيد ، لقد اندفعت من فرط سعادتها فبدا عليها الإرهاق واضحاً بسبب قلبها الضعيف ظلت تضحك في حبور وبذلت جهداً في إخفاء مظاهر الشعور بالألم الذي كان يعتصرها ، تبادلا الحديث عن الذكريات بشفافية ودام الأنس بينهما طويلاً ، قامت تجهز حقائب السفر استعداداً لرحلة العلاج التي قد تطول . . عرجت على غرفة الأطفال فاحتضنتهم واحداً واحداً وقبلتهم طويلاً ، دخل خلفها فرق قلبه للمشهد ، ترقرق الدمع في مآقيه شفقة عليها . . رآها تنظر إليه بإعزاز ومودة . . ابتسم لها في رضى ، رفعت كفها إلى صدرها وتحسست موضع القلب بحذر ثم تغير لونها فجأة ، تبددت اشراقة وجهها وبدأت أنفاسها تتلاحق . . تصبب العرق منها بغزارة ، ناولها الدواء فأحست معه بالراحة واستسلمت للنوم. حاول إيقاظها في الصباح فلم تستيقظ ، أربكته المفاجأة ،. لم يصدق أنها رحلت ، أصر على أنها نائمة ليس إلا ، لكنه عندما رأى الأكف تنزلها عند أول منازل الآخرة تيقن من رحيلها الأبدي ، مال على قبرها ، غرق في يقظة السبات ، كان طفلاً عابثاً لا يعرف قيمة الأشياء ، زحف الخريف على أغصانه فغدت يابسة تنتظر حطاباً همجياً ليكسرها ، ثم دخلت بيته زوجة محبة فأنقذت روحه من الغرق حين تقاذفته أمواج الحياة الصاخبة ، انتشلته عندما تردي كعصفور صغير هوت به الريح في وادِ سحيق ، أضاءت قناديل الفرح في أركان بيته ، أفاضت من روحها شعاعاً أنار فؤاده ، أزاحت عن كاهله عناء الأيام وأحالت الصحارى الجرداء في أعماقه إلى جنان وارفة الظلال ، اكتست أغصانه بالخضرة والنماء بعدما هيأت له سكناً تفوح في أرجائه روائح عطر سحرية . .
توقدت ذاكرته المسكونة بظلالها فبكى بصوت مسموع ، أفاق من وجومه الطويل . . أخذ يردد بفم مفجوع وصوت مبحوح: (أي حزن يئن في نفسي . . أي بؤس يحط في روحي ، صرت من دونك نبتة صغيرة ذابلة ، قلبي في يدي وغربتي ترفع رأسها في غيابك ، خبأ نورك السرمدي ، انطفأت قناديل الفرح في عينيك وكنت قبل ذلك من نصيبي ، كيف يتسنى لي أن أهرب من وجه الجرح الغائر ، أحس يا فقيدتي أني لن أطيق العيش بعدك . . لن أطيق .. طعم الحياة غدا في غيابك مرا ، يا بؤسها هذي الحياة ، سأترع كأس آلامي واسكب دمع أحزاني . . سيظل طيفك ماثلاً أمامي . . نامي في قبرك . . نامي ، نامي في قبرك بأمان . . تحرسك ملائكة الرحمن).
تناهى إلى سمعه وقع أقدام تقترب ، نظر حوله فلم ير أحداً ، أخذ الظلام يزحف حثيثاً ، انبثقت في رأسه فكرة. التمعت كالتماع البرق في ليلة شتاء مفاجئ ،فكر في التمرد على الأشياء المألوفة . . تمرد يدعوه أن يطلق هذا الجسد المدفون إلى ساحة رحبة . . شرع يقنع نفسه بالفكرة . . لم يمض وقت طويل حتى انتبه إلى يد خشنة تهز كتفه بعنف ، التفت فزعاً فإذا به حارس المقبرة ، بادره الحارس بالسؤال (من أنت؟) أنبر بصوت ضعيف واهن (لا تسألني فأنا الحزين . . أمزج الحزن في دمعي . . أدفن حلمي المبتور في سفر الأيام . . إن كنت مكتئباً فدعني . . . . أهتف بملء صوتي: بعدها . . باردة حولي الأرجاء . . باهتة ألوان الضجة في صدري . . الموت اليومي اختطف الألوان . . اخترق الليل عيوني حينما انطفأت كل الأنوار التي أضاءتها).
ربت الحارس على كتفه بحنان قائلاً (احتسبها عند الله) . . قال راضياً بقضاء الله : (إنا لله وإنا إليه راجعون) . . ــــــــ تمت ــــــــــ