لعبة الطين
( تعلمت من الطفولة أن ألعب في الكبر أكثر)
ذكر هنا،..
أنثى هناك،..
والسن أقرب إلى عمر السنابل السبع،. يتناجيان عن بعد، يبتسمان، ويختبئان وراء أثواب أميهما قرب التنور المشتعل، أو بين نساء جمعتهن العشية لسرد الحكايا صحيحة كانت أو خرافة.. يودعان الشمس، وهي تتخلل الأغصان، وتدغدغ الجبال بحمرة يعشقها الشعراء عادة، ثم يلوحان في خجل لسرب العصافير العائدة إلى أعشاشها محملة بتعب اليوم، وعشق الغد.
عصفوران إذن، أو بالأحرى طفلان من هذه القرية، من هذا الكون، من هذه الأحلام التي تولد غالبا ميتة، أو في عنقها حبل مشنقة لحكم صادر سلفا.طفلان/ عصفوران، في وكرين مختلفين ، وراء ثوبين بدويين، وتنور يخرج من فوهته خبزات زرع ساخنة، والضحكات طغت على كل مساحة الكآبة، أو القرية العذبة المعذبة.
العصفورة/ الطفلة، شردها الحلم مرات عديدة إلى نبع صغير، قرب شجرة تين قديمة، تحمل لعبة طينية – هذا الطين الذي كان أصل الخلق – تلعب بها بحنان، تضمها إلى صدرها كما الأم الحنون، تضعها بجانبها بكل رفق لتنظر إليها بألف معنى، ربما تعتقد أنها تفهمها، أو لعل الصورة شكلتها أعز الأنامل،تعكرالماء،ثم تنتظر– بصبر – أن يعود الصفاء لترى وجهها من جديد يطفو، أو هو أعمق قليلا مما تتصور،. هي ليست نرجسا جديدة، والتاريخ/ الخرافة،لا يعيد نفسه هنا،فهي تنتظر وجها آخر يطل من السماء،ثم لا تقفز كالمجنونة في قاع النبع،إنما-وبكل بساطة –تلتفت وراءها لتقرأ في عينيه حلما،وابتسامة هي الفرحة الطفولية كلها.
دائما يأتي العصفور/الطفل،متأخرا. لعله يعلم أن النبع لن يختفي من هنا أبدا،وعصفورته ستنتظر دائما،أو لعله الحذاء/النعل الممزق يقصر خطواته.. مشية هادئة يتصنعها، وانبهار تام بهذه الصورة على صفحة النبع ،. عصفور غض هذا الجسد الصغير، وهو عار من ثوب أمه و من تنور الخبزات الساخنة، أو بين نساء يعشقن حديث المساء.
طفلان قرب النبع...
يتناجيان، يبتسمان، ولا يختبئان وراء أثواب أميهما:
- لعبتك جميلة..
- صنعتها أمي بالصلصال.
- أطين هذا الجسد؟!
- لعبة طينية بالطبع.
يريان سرب نساء حاملات جرات ماء فارغة، آتيات نحو النبع، فيهربان بصمت إلى منحدر ظليل يقيهما من عيونهن الفضولية، واللعبة الطينية باقية، جامدة إلى جوار الماء ... يملأن ما استطاعت جرارهن الحمل،. وينسحبن واحدة تلو الأخرى، يختفين، فتختفي معهن الوشوشات والضحكات العالية، فيعود العصفوران إلى النبع، وإلى اللعبة الطينية.
يلعبان، يمرحان، والوقت يمضي ... تغسل الطفلة / العصفورة رجليها، تعري عن فخذيها الصغيرين، فيختفي وراء التينة احتراما لها، أو أن البراءة / الإرث، علمته ألا ينظر إلا إلى العينين، والأنف القادر على استيعاب كمية الهواء الكافية لكي يستمر هذا الجسد في الحركة، وفي الانتظار قرب النبع.
يطلب منها: - ولأول مرة – لعبتها الطينية، ليلمسها، ليداعبها، ولتتشكل بين أنامله من جديد، وحين تمدها إليه، تترقرق عيناه فرحا، ويشحن نفسه ثقة وأملا.. يلعب بها، يلعب،ويلعب.. فجأة تنفلت من يديه لتسقط في النبع، فتتحول اللعبة طينا مبللا بلا شكل،. عجينة مكورة تنتظر من يكونها من جديد، وحين يذوب الطين بكامله، تذرف الطفلة بعض الدموع.. تخاصمه، تعكر النبع برجليها، ولا تنتظر الصفاء،..تلقي نظرة أخيرة على لعبتها الضائعة، ثم تعود إلى بيتها.
ذكر هنا...
أنثى هناك ...
والسن تجاوز العشرين سنبلة،. تراه في الحقل، أو بين شجرات اللوز ينحت الأرض بمعوله.، ويراها خلف الستار، خلف الباب، أو بين نساء يحلو لهن الحديث، أو يحملن الجرار،. والنبع إما أن يشهد حضوره، أو حضورها.
وفي أحد المساءات ترتفع الزغاريد حين يأتيها، وفي يده لعبة طينية وحناء للعروس.