أنطــــولــوجــــيــا الـشــــعـــر التـــركــــي الحـــــديـــث
نزار آغري
التيارات هنا والثورات والثورات المضادة
صدر حديثاً في اسطنبول "أنطولوجيا الشعر التركي الحديث" بقلم متين جلال، وهو كتاب مهم يعرض لمسيرة الشعر التركي الحديث من خلال نظرة شاملة. فمنذ عام 1920 شرعت تركيا تدخل عصراً جديداً تمثل في زوال الامبراطورية العثمانية ونهوض جمهورية تركيا الحديثة على أنقاضها. وترافق ذلك مع تغيرات ثقافية. ويمكن القول إن هذه المحطة من الزمن أقامت، إلى حد ما، لحظة فاصلة في الحياة الأدبية التركية، ذلك أن زمن الشعر الحديث كان قد بدأ للتو.
جرى ذلك على يد أحمد هاشم ويحيى كمال. فقد وضع هذان الشاعران نقطة الختام للمدرسة الشعرية التي حملت اسم "شعر الديوان"، وانطلقا يؤسسان اتجاهاً جديداً في الشعر التركي ينأى بنفسه عن الحمولات القديمة والأساليب الكلاسيكية والأشكال المعهودة.
لم يكن هذا ممكناً دفعة واحدة، لان المسألة كانت أكثر من ثورة تغيّر القوالب وتبدّل الرؤى. كان نازع الرجلين إحداث الانتقال من فضاء شعري وثقافي، إلى فضاء شعري وثقافي آخر، لكن من خلل المرور البطيء على درجات السلّم، بما لا يتطلب القفز في الهواء. كانت الفترة تتهيأ لاستقبال النزعات القومية والحمية الوطنية بل والعنصرية، وهتف لذلك شعراء كثر مثل زياغوك ألب الذي رفع شعار "الأدب القومي واللغة الجديدة"، ودعا إلى تكريس النزعة التركية، الأتاتوركية. إضافة إليه كان سيفي أورهان، خالد فخري، أنيس بهيج كوريوك، ويوسف زيا يعزفون على اللحن نفسه، ويستخدمون أسايب واشكالاً متماثلة. تحقق هذا النزوع شكلاً ومضموناً تحت مفهوم الأدب القومي، وترسخت أبعاده على صفحات "المجلة الجديدة" التي أصدرها زياغوك ألب. وكان رواد هذه النزعة من أصحاب الإيديولوجيا القومية التركية الشديدة التعصب.
مع بداية الثلاثينات نهضت مبادرة لفتح طريق أدبي جديد، كردة فعل ضد سطحية الأدباء القوميين وغرقهم في السياسة، على أيدي شعراء دخلوا الحياة الأدبية التركية تحت اسم "حملة المشاعل السبعة"، فبدأوا ينتجون على شكل ورشة جماعية تنشط بين الناس. وكتب أحدهم: "سبب نشر كتاباتنا بشكل مشترك هو رغبتنا في تقديم عمل جماعي يعرض آخر التيارات الأدبية في بلدنا. لن تجدوا في كتاباتنا مشاعر الأمس المتأففة والباهتة ولا ترانيم الفترة الأخيرة الضيقة التي لا تنشغل بسوى فاطمة وعائشة. نحن قبل كل شيء نريد التعبير عن مشاعرنا من دون حاجة الى مساعدة معنوية من أحد". وقد اتخذوا من شعراء فرنسيين أمثال فيرلين ومالارميه وبودلير مثالاً.
لكن التغيير الكبير في الخطاب والرؤى والأساليب جاء على يد ناظم حكمت الذي نقل الحماسة والإنفعال والالتزام من الجبهة القومية إلى الجبهة الشيوعية والأممية. ناظم حكمت هو صاحب التجديد الأساسي في الشعر التركي بعد إعلان الجمهورية، وكان أشبه بثورة سلمية على صعيدي الشكل والمضمون. ألقى ناظم حكمت الوزن جانباً وهدم مفهوم الشطر، لكنه لم ينقطع عن التقاليد تماماً. كان المضمون هو المهم بالنسبة إليه، مستنداً في ذلك إلى ايديولوجيا مسيطرة دفعت به في دروب صعبة أوصلته إلى المآسي على صعيد وضعه الفردي، فواجه السجون والمعتقلات والمنافي. سار بوعي نحو حدود التبني الحماسي لما اعتبره التوجه الأكثر صدقاً في مقاربة أحوال الناس، أي تيار الواقعية الاجتماعية. وهو قدّم أقوى الأمثلة في هذا الميدان وترك بصمات قوية في الجيل الذي تبعه.
ذهب شعر ناظم حكمت فوراً صوب "النظم الحر" و"الشعر الحر"، طارحاً جانباً قيود الوزن واقترب بالشعر من النثر. وتبلورت مبادئه ورؤاه الأدبية والسياسية خلال سنوات دراسته في موسكو إذ تأثر هناك بالمستقبلية والبنائية، فتركت أشعاره الجديدة أصداء واسعة في تركيا وخارجها. كان ذاك زمن المد الثوري اليساري، الماركسي على وجه الخصوص، فانتشرت المجلات الثورية، وبزغت الحركات العمالية والطالبية، وأخذ الهيجان الإنقلابي والثوري يصول ويجول في العالم: حروب المستعمرات وحركات التحرر القومية وحرب فيتنام وحركات الطلاب في أوروبا. ركض الشعراء وراء مقولات جديدة، وبحثوا عن أشكال جديدة بوصفها تجديداً.
لم تكن تركيا استثناء. عندما انتشرت أشعار ناظم حكمت كانت الماركسية قد غدت الايديولوجيا الطاغية التي غزت الأدب بقوة وحضّت الشعراء على استخدام لغة بسيطة ومضامين يومية تقرباً من الناس العاديين. لكن سرعان ما ظهرت تيارات ومدارس جديدة كالوجودية والبنيوية وسواهما، ولم يكن ممكناً ألا يتأثر الشعر التركي بها. في تلك الفترة بدأ الانشغال بالقلق الفردي وتم الذهاب صوب الميثولوجيا الإغريقية.
غير أن الشعر الثوري عاد من جديد بتأثير من التغيرات العالمية وأشعار نيرودا وأراغون والسورياليين، وظهر الشاعر أحمد عارف مرحّباً مرة أخرى بالواقعية الإشتراكية الإجتماعية وقضية الإلتزام، وتبعه تورغوت أويغار الذي قال بأولوية المجتمع على الفرد وضرورة انخراط الشاعر في القضايا اليومية والنشاطات الإجتماعية والسياسية. وفي الوقت نفسه كان ناظم حكمت يواصل مسيرته الشعرية والتزامه السياسي، وتأثيره في الآخرين رافعاً شعارات الحرية والإشتراكية ومبشّراً بحرب الطبقات.
ظهر الشعراء الأتراك كأنهم يكررون أنفسهم جيلاً بعد جيل. العالم الخارجي بصخبه ومشكلاته لا يتركهم وشأنهم. نهض الشاعر غولتن آكين ليؤكد أهمية الفرد وواجب الإخلاص للرؤيا الشعرية الخالصة، فدعا إلى التحرر من الآخرين ومن القضايا الكبرى ملتفتاً إلى العالم الداخلي للفرد. لكنه سرعان ما تخلى عن ذلك كله وعاد ليرتبط بالإلتزام وكتابة ما دعاه "الشعر الشعبي". واقتفى أثره في ذلك أوزدمير إينجه وأولكو تامر ونهات بهرام وأحمد تلي واسماعيل أويار أوغلو. لقد كثر الشعراء وغاب الشعر وحلت محله الإيديولوجيا والشعارات. بعد الثمانينات بدأت تيارات الحداثة والشعر الحديث تغزو الفضاء التركي الخلاّق. وإذا كان لا بد من قول مختصر، فإن الحداثة انطلقت من نقطة معاكسة تماماً لحداثة ناظم حكمت وشعراء اليسار. حلّت الصعوبة محل السهولة وساد انغلاق المعنى محلّ وضوحه، وهيمن التجريد محلّ الملموس، وأدير الظهر للشعر الشعبي. من جهة أخرى، تم التوجه نحو مفهوم التشطير والتلاعب بالكلمات والارتباط بالشعر القديم وإن بشكل ضعيف. في الحداثة الأولى كان القول الفيصل للمضمون. بالنسبة الى أنصار الحداثة الثانية يأتي الشكل أولاً.
يوضح أحد أركان هذا التيار جمال ثريا، الموضوع على النحو الآتي: "نحن لا نقول إن الشعر شكل فقط. لكننا نعطي أهمية فائقة له ونجد هذا ضرورياً". لقد تم الإقرار أخيراً بأهمية الرؤى الجمالية واستقلال النص وبهاء اللغة، بعيداُ عن السياسة والإجتماع والقضايا العمومية.