سندخل الموضوع من خلال الآتي : هل يمكن للنص الشعري أن يتواءم مع التاريخ في ظل تداخل معرفي أساسه الإنسان المشكل لبنية حضارية ما ؟ وهل نستطيع أن نقرأ النص الشعري مشفوعا بكليات فكرية وفلسفية ذات خصوصيات تاريخية ؟
نعتقد بإمكانية ذلك , بل وبوجوبه في لحظات حضارية متأزمة , وهي اللحظات التي تجعل التداخل بين الشعري والتاريخي مشروعا , لأن من أهداف النص الشعري في هذه الحالة أن يترجم عن وعي رسالي نعتقده ونرجوه , نقول هذا ونحن نعلم أن المنظومة النقدية المـعـاصرة إنما تنأى في أغـلـبـهــا عن الرِّسـالـية التي لا تـُفـيـد فـي زمن النقاد الذين" لا يتحدثون عن المشاعر والأحاسيس وعن الإيجابيات الفكرية…ولا يتحدثون عن الأفكار أو الشخصيات العظيمة , إنما غدت لغتهم زاخرة بالمصطلحات والمفردات الطنَّانة…"(1) .
وطرح الموضوع بهذه الكيفية وفي الشعر الجزائري الحديث مفيد لأنه ينبئ عن التجربة الشعرية الخاصة التي تسير في ظل ضدين أساسهما الشاعر الواعي بالتاريخ المؤيَّد بخصوصيات حضارية , يقابله مؤرِّخ يقصر منهجه في أغلب الأحيان على قراءة روح التاريخ الذي يكمن في معارف عديدة منها الشعر , والقصور قد ينجم عن فهم بعض أهل التاريخ لوظيفتهم التي يعتقدونها تسجيلية , وهو الفهم الذي جَرَّ متلقين كثيرين عندنا إلى عدم قراءة حركة التاريخ قراءة سليمة , ناهيك عن جعلها أداة لوعي أساسه الخصوصية الحضارية المُشَكَّـلَــة وفق البناء الـسُّـنَني للأمور .
ونسأل بشأن هذه الضدية ما يلي : هل يمكن –مثلا- للمؤرخ المؤيد بكليات مجتمعية خاصة تشكلت في ظل ظروف خاصة أن يقرأ الجزائر بمعزل عن شعراء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين** وبالمقابل هل يمكن لمحمد العيد –رحمه الله- أن يكون "شاعر الجزائر وشاعر الشمال الإفريقي" (2) بمعزل عن هذه الخصوصية التاريخية ؟ نرى بغير ذلك . لكننا نؤكد حتما أننا لا نروم بهذه العلاقة أن يسرد الشاعر مجموعة من الوقائع التاريخية , وإن فعَلَ فستكون وفق رؤيته لا رؤية المؤرخ .
وكذلك فعل الشاعر مفدي زكرياء-رحمه الله- في إلياذته التي توضع في قالب الشعر الملحمي الذي يجسد بطولة الشعب الجزائري منذ فجر التاريخ , وهذا صحيح إذ تسير أغلب الصفحات التي تفوق المائة في هذا السبيل , لكننا مع التاريخ نقرأ في الإلياذة ما يحمل موقف مفدي البطولي من واقعه , وهو الموقف الذي اصطدم فيه الشاعر بجبال من العوائق التي قادته إلى الإحباط الثائر المؤيد بالشعري والتاريخي يقول :
وَتــبـًّــا لـِمُـجْـتَـمـعٍ خَــــائـِــــرٍ تَعِيشُ الرِّجــالُ بـهِ كَالـدُّمَى
يـَـمـُـوتُ ويُـقْـبَـرُ فـيهِ الضَّمـيـرُ وَيَحْمي البَريءُ بهِ المُجْرِمَا
تَعَــالَيْ فـَرَنْـسا ادْخُـلـِي بِسَلامٍ فَأَبْنَاءُ صُلْبِكِ مِلْءُ الحِمـَى
غـَداً بِـالــزَّغَارِيــدِ يَـسْـتَـقْبِلُون نُزُولَكِ في أَرْضِنَـا بَـعـْدَمـا (3)
هذا هو المفهوم المتداخل الذي نحاول به قراءة الشعر الجزائري قبل الثورة التحريرية (1954) وسنرجِئ الحديث عن شعر الاستقلال إلى فرص أخرى تحتِّمها عوامل شتى !
وفيما يلي جملة من السمات التي تحدد النص الشعري في علاقته بالتاريخ , وسنرى كيف بعدها أمكن للشاعر الجزائري أن يعايش منظومة الواقع , وأن يسجِّل حضوره كطرف مشارك في الزمن , ولعل حضوره هذا يساوي أو يفوق حضور بعض السياسيين والمؤرخين , أو المثقفين الاندماجيين الذين لم يستطيعوا مواكبة خصوصيات حركة التاريخ الجزائري الحديث .
والحديث عن الشعر سيكون وفق الوجه الآخر للبطولة , والذي نعني به بطولة الشعب المؤيَّدة ببطولة الشعراء أنفسهم حين وقفوا بشجاعة فنية ووطنية وأخلاقية ضد أخطاء بني جلدتهم المشكَّـلين في كتل سياسية , تماما كما وقفوا ضد بني فرنسا وهمجيتهم المروعة , وهي الوقفة التي سيحفظـهــا روح الـتـاريخ الـجـزائـري الـحـديـث ناصعة البياض , خالية من التزلُّف والتملق والنفاق .
إن القصيدة الجزائرية التي كتبت في فترة (1945-1954) بخاصة , تمر حتما عبر تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية , ففي ضوء ذلك يمكن للمحلِّل اكتشاف العلاقة بين الشعري والسياسي كما يمكنه الوقوف على الجدل السائد بين الإثنين في ظل إثنية تاريخية تَصَادم وتناقَض فيها الشعري والسياسي ففي رأي الشاعر أن البنية التاريخية الكامنة في الفكري والسياسي والديني ( الكامن في الطرق الصوفية) قد عجزت عن تقديم الجديد الذي يكمن في الثورة ضد فرنسا .
لقد اصطدم محمد العيد وأحمد سحنون ومفدي زكرياء وعبد الرحمن بن العقون , ومحمد جريدي , وأحمد معاش…بعقم البنية التاريخية التي لم تستطع تجاوز بعض الخرائط السلبية التي منها عبث بعض الساسة الذين عجزوا عن الحل واندمجوا في هستيريا صناديق الانتخاب التي حوَّلوا بها الشعب إلى" جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب أو قطيع انتخابي يُقاد إلى صناديق الاقتراع"(4) يضاف إلى هذا جهل أهل الطرق الصوفية الذين قدموا للاستعمار الفرنسي ما عجز عنه سلاحه , يقول أحد الفرنسيين :"نحن في حاجة إلى جمـاعـة من الدراويش ندفع لهم مكافآت شهرية , ونوعِزُ إليهم بالتكلم في مختلف المناسبات , ويكون كلامهم دائما في مصلحتنا" (5) ويمكننا أن نقرأ ذلك في قصيدة محمد العيد "يـَـا لَـيــلُ" التي كتبها عام 1951 , يقول :(6)
يـَـا ليلُ كم فيك عـادٍ داسَ الِحمَى واسْتَبَاحَا
إلى مـتى أنــتَ دَاجٍ تَغْـشى الرُّبـى والبِطَاحَـا
نَفسي إلى الفَجرِ تَاقَت متى أرى الفَـجْـرَ لاحَـــا
فالليل هنا فرنسي أساسه وحشية فرنسا الصّليبية ، ويقابله ليل آخر أساسه أخطاء السياسيين الجزائريين المؤيَّدين بالطرق الصوفية المنحرفة : (7)
يــا ليلُ مـا فيـك نجمٌ جـَـلا الــدُّجـى وأَزاحَـــا
إلا كــواكِــبَ حَـيـْـرَى لــمْ تَـتَّـضِح ليَ اتـِّضَـاحَا
بـطيـئــَـةً لـسـتُ أدري بِـهـــا ونـًـى أم كُـسـَـــاحا
تـَحـكي أَدِلَّاءَ قَـومـي مَـرضَـى تَـسُوسُ صِحَاحَا
مِـن غِـلْـمَـةٍ تَـتَــمَـارَى وشـِــــيـخـَــــةٍ تَـتَـــلاحـَى
وَدُّوا الـنِّـزاعَ فَـكَـانُـوا مِـثـلَ الـكِـبَــاشِ نِـطـَاحا
فما سبق يرشدنا إلى الآتي :
. فرنسا تخطئ تقتل
الليل . السياسي يخطئ يؤخر الفعل السليم
. الطرقي يخطئ ينشر الضلال ويشوه العقيدة
والنتيجة الكبرى فعل تاريخي مشوَّه يقابله نص شعري مشرق , إذ الأبيات تُثبت رفض الشاعر المطلق لفعل تاريخي جامد تساهم في صنعه نجوم خابية وكواكب حيرى لا هدف لها سوى الكلام والوطن ضائع : (
أزرى بِنا الذُّلُّ يا خَلِيلِي فهَـل إلى العِـزِّ مـن سَبيلِ ؟
بـلادُنـا أصبَحـَـتْ ذَلـُـولًا أسـيــرَةً فـي يــدِ الـدَّخيلِ
أنَرتـَجِـي لِلْـهُدى وُصُولًا ونَــحْـنُ رَكـبٌ بـِلا دَليـــلِ
ونفس الشيء نجده عند مفدي زكرياء ولكن بعنف أكبر وبثورية معهودة , فهو يستغِلُّ حادث الزلزال المدمر الذي حل بمدينة الأصنام (الـشّلف حاليا) عام 1954 ليَعْبُرَ من خلاله إلى إدانة المسيرة التاريخية لشعب يريد الخلاص : (9)
ويا خطبُ رفقاً بهذي البلادِ أَلَمْ تَرَ يا خطبُ أحمالَها ؟
ألـم تـَرَهَـا بينَ جَهــلٍ وفَـقْـرٍ تُـجرجِرُ للـمَـوتِ أذيـالَها ؟
ومــا فـَعَـلَ الغُشْمُ في أمرِها وقـد فوَّضـتْ فيه جُهَّالَها
فـلـــن تَستَـحِـقَّ العُـلا أُمَّــةٌ تـُوَلِّي القيـــادَةََ أرْذالَـهـــا
وكيـفَ تُـريـدُ البَـقــاءَ بـلادٌ تـَعُــدُّ الضفـادِعَ أَبـْطـالَهـــا
ولـيـسَـت بِـبـالِـغـَةٍ أمـرَهــــا وجـَلّادُهـا صـارَ دَلاَّلـَهـــا
فغياب المعرفة السياسية الواعية المشكلة لحركة التاريخ هو المسؤول عن هذا النوع من البناء اللغوي الرافض الذي يؤول بالمتلقي في إطار محاكمة الشعري للتاريخي إلى هذه الخلاصة :
الفعل التاريخي = [ الجهل-الفقر-فقدان القيادة] = حركة موت شاملة
وبنظرة إيمانية للموضوع يرى مفدي زكرياء أن الزلزال سببه الأخطاء التاريخية التي تداخلت مع الأخطاء العقيدية لتشكل مبررا كافيا للجزاء : (10)
هـو الإثـمُ زَلــزَلَ زِلــزالَـها فـزُلـزِلت الأرضُ زلـزالَـهـا
وحمَّلـَهــا الـنَّــاسُ أثقالَـهم فأخـرجتِ الَأرضُ أثقالَها
ألا إنَّ إبلـيسَ أوحَـى لها ألا إنَّ ربـَّك أوحَــى لـَهــا
والمشكلة في علاقة الشعري بالتاريخي في هذه المرحلة أن يتعدى الفعل الخاطئ قادةَ السياسة والطرق الصوفية ليشمل شرائح من المجتمع الجزائري , يقول أحمد الطيب معاش في قصيدته "خواطر ذكرى" (11) المهداة إلى أبي النهضة الجزائرية الإمام عبد الحميد بن باديس :
مضَّنا الدَّهرُ كالعِدى ورَمَانا وسَقانا مِلْءَ الكُؤوسِ هَوانا
ورأينا القَذَى فأَغْضَت عَليهِ كُـــلُّ عَيـنٍ كـأنَّــه مَــا كـَانـَــا
ورأيـنا الأَذَى يُـنيـخُ بأََرضٍ كـُــلُّ شبرٍ لمْ يَغدُ منها مُصانا
لـم يسؤْنـا سِوى عَدُوٍّ عتـيدٍ قَـد رأيــنـَـاهُ ظـالِمــاً خَوَّانـَــا
ورأيـنا ابنَ جِنْسِنَا فِي حِمَانَا صَــارَ للـخَـصْمِ سَاعِدا مِعْواناَ
جَـهِـلوا دِينَـنا وعَـادَوْا تُراثـــاً وَنَـسُوا مجـدَنـا وبَاعُوا حِمَانَا
ويتوجه الشاعر محمد جْريدي باللوم للشعب الذي قبِلَ الحزبية وطبَّل لها وهي تنخر عظامه , وتبلي جهوده يأكل بها الأخ لحم أخيه ، ويكون مخبرا عنه وجاسوسا عليه عند فرنسا المستبدة الظالمة , وكأن الروابط الدينية والوطنية أصبحت منعدمة : (12)
فعُدنـا ومـا غَيرُ التَّحَزُّب رمزُنــا وضَـلَّ بـنــا حـِزبٌ يُسيءُ إلى حِـزبِ
وأَودى بنَا رهطُ الوِشايةِ بينَنا وسارَ إلى البَلْوى بِنَا خَائِــنُو الشَّعْبِ
أما الشاعر عبد الرحمن بن العقون فيصور علاقته بقومه في قصيدة "الليل البهيم" مثلما صورها قديما الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" في علاقته بقومه إذ أوضح لهم أن هذه الصراعات لا تزيدُهُم إلا غربة في عقر دارهم : (13)
إسمَـعـُــونـــي مَــا أنــا إلاَّ صَدىً ردَّدَتــه مـِـن حَـنَـايـَـاكـُــم عِـبَرْ
هـذهِ الأمـراضُ فـي جَـوْهَـرهَا تـُورثُ الأُمـَّـةَ قَــتـَّـــالَ الأَثـَــــرْ
وتـُـرينُـــا الــذُّلَّ عـِــزًّا قَـيِّـمـــــــاً وتُذيقُ الشَّعبَ مَوسُوعَ الضَّرَرْ
جـَـعَـلـَتْـنـــا فـِي حـِمـانـــا غُرَبـَاءَ وأَرَتـْنَــا كـيـفَ تـَنْـهـَـــارُ الأُسَـرْ
هذا حال الشعراء الجزائريين الذين شملتهم الريادة الشعرية والفكرية والإصلاحية , إذ كتبوا هذه الأشعار في ظل كهولة أهَّلتهم للحكم والنقد والمراجعة , ونضيف إليهم بعض الأسماء الشعرية التي كانت شابَّة في تلك الفترة حين لم يتجاوز سنُّها مدرجات الجامعات العربية التي آوتهم طلابا جزائريين مسلمين مغتربين في تلك الفترة , ومن هؤلاء نذكر محمد بلقاسم خمار وأبا القاسم سعد الله ومحمد الصالح باوية وعبد الله شريط…فهؤلاء لم يمنعهم عنفوان الشباب من الخوض في الفعل التاريخي الذي يتداخل مع نص شعري جديد أساسه المعاصرة التي آتت أكلها مشرقيـًّـا .
ويبدو هذا التداخل في قصائد الشاعر أبي القاسم سعد الله "كثافة..البعث..الخطاطيف…" , فالفعل التاريخي الخاطئ ينمو بحدَّة ليشمل السياسي والطرقي والشعب , إنها مسيرة خاسرة , الشاهد فيها تلك الجموع المجاهدة التي استشهدت منذ الأمير عبد القادر (1808-1883) لتصير في عرف الواقع "من نفايات أمس" , فلا عِبَرٌ ولا عظات , إنها السنوات العجاف التي لم تنجب إلا الكلام والوداعة والبكاء : (14)
أســـاسٌ رمـيــمْ
لـمـثـْـوى قـديـمْ
وطـيـنٌ يـنـوح فـيـه الخـَراب
وأكــوامُ فـَحـمٍ وقَــشٍّ
وجِـرذَان رَاكـضـةٌ خـائِـفـَـة
وشاراتُ مَـقـبـَـرَةٍ نـَـائـِـمَــة
وأشـبــاحُ ذُعــرٍ وخَــوْفِ
عَـلـى جُـثـَثٍ مـن نِـفـايــاتِ أمْـس
ومِــن مَـحـصَـدِ الــسَّـنــواتِ الـعـِجـــافْ
و نقرأ هذه السلبية التاريخية لدى محمد الصالح باوية في الأسطر الآتية , حيث يتوقف الفعل التاريخي في دائرة السكون الرهيب المغلَّف بالثرثرة والاستبداد والاستعمار والقهر : (15)
لـَو قـطـرةٌ مـن دَمـي تَـعـتـرِفُ
لـو رجـفـةٌ تـَعـتـرِفُ
لـَو مُـنـحَـنـى مِـن خَـلْـجَـةٍ يـَعـتَـرِفُ
إِنِّـي هُـنـا
أَجْـتَـرُّ ذاتـي..ونـِدائي يَـنـزِفُ
مـا زلـتُ خـيـطـاً مُـخـلـصـاً للـعَـنـكبــوتْ
مـا زلـتُ عـينـاً تـرقـُب الدُّولابَ لـيـلاً فـي صُمُـوتْ
ريـحـاً وتـمـزيـقـاً وقـبـواً وعـرقْ
غَـلَّات عـبـدٍ مـستـميـتٍ تَـحـتـرِقْ
وخلاصة هذه الضدية أنها صارت عامة حيث لا نقرأها عند الشعراء فحسب , بل تتجاوز النص الشعري إلى القصة والرواية وكتابات إعلامية أخرى , ويكفينا ما أشار إليه القاص الجزائري الشهيد أحمد رضا حوحو (ت1956) حيث ذكر أنه كتب حتى ملَّ الكتابة , والسبب يرجع –كما يرى- إلى الطريق المسدود الذي انتهت إليه الأحزاب الوطنية قبل اندلاع الثورة "فالسياسة ما زالت تتابع سبيلها المعوجّ غير المجدي ، ولم تخرج حتى هذه الساعة (1952) من إطـارهـا الانتخـابـي الضيِّق وحـزازاتـهـا السخيفة حـتى مـلَّــها الشعب ومجَّها " (16)
وإذا كان النص الشعري المذكور قد تداخل مع التاريخي في إطار الجدل المفضي إلى الضدية الثائرة أحيانا , فإننا لا نعدم أن نقرأ نصوصا شعرية تداخل فيها الشعر مع التاريخ في ظل إيجابية فرضها الفعل السليم , وكذلك نقرأ لهؤلاء الشعراء في علاقتهم بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين حين نظروا إليها بديلا حضارياً وفكرياً وعقيدياً يخلِّصهم من محن فرنسا الصليبية .
فالشاعر مفدي زكرياء –وهو السياسي الخبير بأحوال السياسة في تاريخ الجزائر- كان يرى البديل الإيجابي في جمعية العلماء المؤيَّدة بزعيمها الشيخ عبد الحميد بن باديس (ت1940) يقول مفدي : (17)
وفـــتــيــــةٍ أخــلَــصُــــوا لله أَمـــــــرَهـُـــمُ والشَّعبُ لـم يَـثْـنِــهِ عســـفٌ وتَهديـــدُ
قامُوا وفـي الشَّعب كذَّابون ليس لَهــم غـيـرَ الـمنـاصبِ والألقــــــابِ مقصُــــودُ
جمـعِــيَّـةَ الـعـلـمــاءِ الـمـسـلمــــين ومنْ للمسلمـيـنَ سـواكِ الـيــــومَ مَنــــــشُـــودُ؟
خابَ الرَّجا في سواكِ اليومَ فاضْطَلِعي بالـعـِبْءِ مــذْ فَــرَّ دجَّالٌ ورِعدِيدُ
سـيــرُوا ولا تَـهِـنُـوا فـالـشَّـعـبُ يـرقُـبُكم وجــــــــــــاهِـدوا فـلـِـواءُ الـنَّـصر مـعـقُودُ
أمـانــةُ الـشـعبِ قـد شُـدَّت بـعـاتِـقـِكُـــم فمــــــا لـغيــــرِكـُمُ تــــُـلــقى الــــمَقــــَــالـــيدُ
وراقِـــبـُـوا الله والـتَّـاريــــــــخَ فــي غـَـدِه وعهــدَ "بـــاديسَ" إنَّ الـــعهدَ موجُودُ
وأخيرا فإن العلاقة بين الشعري والتاريخي هنا إيمانية إذ تحكمها سنن الإسلام التي لا يكون التاريخ فــاعلا إلا إذا مــرَّ مــن خلالها يقــول محمد العيد في قصيدة "سلوا التاريخ" : (18)
بَني الإسلامِ أَحْيُوا الدِّينَ أحيُوا شَعــــائـِـــره وأوفـُـوا بِـالـعُـقُــودِ
فـديــنُ مـُحَـمَّـدٍ ديــنُ الـتَّـرقـــي ومَجْـدُ مـُحَـمَّـدٍ مجـدُ الـخُلودِ
ويقول مفدي زكرياء : (19)
فـإنْ تـنـصُـروا الله يَـنــصـــرْكـم ويُنـجِـزْ أمــانيـكُــمُ الـغَـالِــيَــهْ
ولــنْ يـُخــلـِــفَ الله ميـعــــادَه ولا ريــبَ ســاعـــتُـنـا آتـِـيـَــــهْ
وعند أحمد سحنون لا يكون البناء فاعلا إلا في ظل الإسلام المؤيد باللغة العربية فبهما تكون الجزائر : (20)
مـاضٍ لـنـا مُـتـألِّـقُ الأضـواءِ مـثـلُ الـنَّـجـمِ بــاهِـرْ
لنـعيـدَ بـالـفـُصحى وبـالإسـلامِ شـخصِيَةَ الـجَزائِـرْ
فـالـدِّيـنُ والـفُـصحى هـمـا عِـزُّ الأوائـِلِ والأواخِرْ
بِـهِـمــا تـآخَيـنــا وقـــامَـت بـينَنَــــا أقـْــوى الأَواصِرْ
يــا ابـنَ الجزائرِ كُنْ على النُّعمى لربِّك خيَر شَاكِرْ
لا تـــنــسَ أنَّ الله يَـنـصُـرُ مـن لـديـنِ الله نـَـــاصِــرْ
وخلاصة القول –في موضوع كهذا – أننا حاولنا أن نقرأ شيئا من الشعر الجزائري الحديث في علاقته بتاريخ الجزائر الحديثة قراءة مختلفة ننأى بها عن المُدهِش المُشَوَّه , وهي القراءة التي حكَّمنا فيها الخصوصية التاريخية للشعب واعتمدنا فيها النقد والمراجعة ولعلنا نكون بهذا قد أنصفنا هؤلاء الشعراء حين بيَّنا أن أشعارهم جديرة بالاحترام رغم بساطة فنها , وقد فعلنا ذلك أيضا مع التاريخ إذ لا يجوز لنا –فيما أعتقد- أن نقرأ التاريخ دائما في ظل النموذج الرائع الذي لا يُناقَش و إلا فما أكثر الأخطاء في تاريخنا وما أقل أن ننظر إليها بموضوعية تزكِّي الصالح وتلغي الطالح .
د. عمر بو قرورة الجزائر
الهوامش
1-في الرواية الأخلاقية ص11- جون كارونز- ترجمة إلياس يوسف -ط1 بغداد 1986.
** نعني بها جمعية العلماء التي تأسست في 05 ماي 1931 وقد قادت ثورة التحدي ضد الاستعمار وأذنابه , واستطاعت الحفاظ على مقومات الجزائر المسلمة , ولولا فضلها لما وجدنا في الجزائر من يتكلم اللغة العربية كما قال رئيسها الثاني الشيخ محمد البشير الإبراهيمي .
2-كذلك وصفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي - البصا ئر -عدد 94 -السنة 1949 .
3- إلياذة الجزائر : ص 105 -مفدي زكرياء –المؤسسة الوطنية للكتاب - الجزائر .
4- شروط النهضة : ص 47 -مالك بن نبي -دار الفكر .
5- الجوانب النفسية في حروب التحرير -د.حنفي بن عيسى –مجلة الثقافة -عدد 86 –السنة : 1985-الجزائر.
6- ديوان محمد العيد : ص 48 – الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر 1979.
7- نفسه :ص47 .
8- نفسه : ص 347.
9- اللهب المقدس: ص 275- 276- مفدي زكرياء - الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر .