الفنان السوداني التشكيلي الراحل : عثمان وقيع اللهولد "وقيع الله" ببلدة "رفاعة" بأواسط السودان عام 1925، تقلب في دراسته للفنون بين كلية غردون (1942-1945(، ومدرسة الفنون الجميلة في نفس الكلية (1945-1946)، وكلية كاميرويل للفنون بلندن، وكلية سيتي آند تميلدز للفنون بلندن، ومعهد كورتو لتاريخ الفنون بلندن (1946-1949)، ومعهد الخطوط بالقاهرة، وكلية الفنون التطبيقية بالقاهرة (1950-1951) وقد حاز إجازة خطاط من أستاذة الخط العربي، الخطاط المصري "سيد إبراهيم"، والميدالية في الفنون من المجلس القومي للآداب والفنون بالسودان.
ومن المعروف أنه بدأ يكتشف أبعاد جماليات الخط العربي منذ منتصف الأربعينيات، وبدأ كتابة الخط وهو في سن الثانية عشرة، وقد كان باديًا للجميع منذ ذلك الزمن الباكر أن خطوطه مشحونة بالحب للنص القرآني، الذي استوحى منه جُل أعماله.
وبعد أن أنهى "وقيع الله" دراساته في إنجلترا، وعاد في بداية الخمسينيات إلى السودان، ونتيجة لتدريبه الفني الحديث بدأ ينظر إلى أعماله الخطية من وجهة نظر معاصرة؛ فقام بتحرير الخط من القوانين والقواعد، خاصة تلك التي تؤكد على الزخرفية والتكرار في الأنماط والأشكال، مما جعله عن جدارة قائد هذه المسيرة ورائدها.
كان "وقيع الله" بالإضافة لانشغاله بالخط والرسم، قارئا ذواقة للأدب العربي، وشاعرًا ترك خمسة دواوين -لم تنشر بعدُ- من الشعر الوجداني والإنساني والإسلامي الجميل. وقد كتب أشعاره بالفصحى وبالعامية السودانية، وقصائدهُ تحمل روحًا رومنسية واضحة، ولا غرو فهو عاشق الجمال وسط روح البجاوي المتمردة!
ومن هنا لم يقتصر "عثمان وقيع الله" على الحرف القرآني في لوحاته، بل كتب بجواره أشعار العرب والسودانيين، الفصيحة والعامية، للقدماء والمحدثين. وقد أدى تنوع ثقافته وطول تجربته إلى إكسابه الخبرات المفيدة، والتنوع اللافت للنظر، فقد قام بترجمة (رباعيات الخيام)، ولحنها على أنغام الأغاني السودانية الشعبية المعروفة بـ(الحقيبة). وقد نقل "وقيع الله" كل ذلك للمنافسات في المعارض الدولية والإقليمية، في قاعات شهيرة مع فناني إفريقيا والعالم.
ولم ينس في ممارساته الفنية أن يبرز الشعراء السودانيين الثلاثة الذين يعتبرهم قدوته، وهم: "التيجاني يوسف بشير"، و"محمد المهدي مجذوب"، و"إدريس جماع"، وثلاثتهم متصوفة مثل "عثمان وقيع الله".
وفي لندن كان "عثمان وقيع الله" دائم اللقاء مع الأديب السوداني المعروف الطيب صالح، وأقام علاقة مع الشاعر العراقي "بلند الحيدري" الذي كتب بعض المقطوعات النقدية التي تتناول أعماله.
يقول "بلند الحيدري": إن الفنان السوداني "عثمان وقيع الله" يحاول جاهدًا أن يؤكد دور الخطاط الفنان الذي يستلهم الخط العربي، ويوضح أن الكلمة المخطوطة تحمل رسالتين؛ واحدة تشكيلية ماثلة في الخط الجميل، وأخرى فكرية ماثلة في الفكرة المعبرة عنها.
ولم يفُت "بلند الحيدري" عند حديثه عن "عثمان"، أن يعدد مواهبه الفذة وعطاءاته الفنية، وأهمها شاعريته ومعالجته الفنية للنص الشعري لتقريبك منه، فهو الخطاط والفنان والشاعر لذلك أسموه (مجمع الفنون الجميلة).
ارتبطت حياة "عثمان وقيع الله" بالريادة فهو رائد المدرسة التي كانت تدعو للعودة إلى الخطوط العربية. وبالإضافة إلى هذا فقد أسهم في تصميم الزخارف والخطوط في الكعبة الشريفة عندما جددت السعودية زخارفها، وخط بيده ثلاثة مصاحف، وأشرف على مصحف إفريقيا.
واقتُنيت لوحاتُه عبر القارات، في الوطن العربي، وأوروبا وأمريكا وأستراليا، وروسيا والصين، فعلى سبيل المثال تُعرض لوحتُه "كهيعص"- مفتتح سورة مريم- في مقتنيات المتحف البريطاني.
وقد أسس "عثمان وقيع الله" والفنان "شفيق شوقي" كلية الفنون الجميلة الأولى في السودان، داخل كلية غردون، ثم انتقلا بها إلى المعهد الفني، الذي ورثته أخيرًا جامعة السودان، وهما عميدا نشأة الفن في السودان بالإضافة إلى آخرين.
وارتبط اسم الفنان "عثمان" بكل التحولات التي بدأت باستقلال السودان، ورسخت أعمدة سيادته، فقد صمم وخطّ أول عملة سودانية ورقية ومعدنية، وصمم الشيكات وواجهات دور المصارف، ومعهد الدراسات المصرفية واللافتات التجارية والإعلانية، وصمم ونفذ كل أوراق الاعتماد والاتفاقات المبرمة بين السودان وسائر دول العالم حتى عام 1958. كما كان أول من صمم ونفذ شهادات وزارة المعارف ومعهد التربية بـ"بخت الرضا"، وكلية الاتحاد العليا، وبراءات الشرف، وكان له دور في اختيار أول علم للسودان عند استقلاله.
وعثمان "وقيع الله" هو أول من أدخل خط مانشيتات الصحف على الصحافة السودانية، وكانت أولى تلك الصحف مجلة (السودان الجديد)، كما كان أول من أدخل رسم الكاريكاتير في نفس المجلة.
وهو عضو مؤسس لرابطة الأدباء السودانيين (1950)، ومؤسس أول مرسَم حُر للفنانين السودانيين (1954ـ1964)، وهو أيضًا عضو مدى الحياة في اتحاد الفنون العالمي (اليونسكو).
ويمثل "وقيع الله" علامة بارزة في الفن السوداني، فقد أسس مع عدد من رواده مفردات هذا الفن وموضوعاته وتقنياته التي جربوا فيها عددًا من الأشكال الأدبية والفنية الغربية المعروفة، وأعطوا فنهم الغربي التقنيات والألوان والأنماط العربية والإسلامية والإفريقية، فصار لغة تتوزع بين الغابة والصحراء وتحاول الاستقلال عن المؤثر المصري الذي أثر على كتابات وأعمال الرواد في الأدب السوداني في مرحلة ما.
ومن هنا فقد عُرف "عثمان وقيع الله" وتميز كثيرًا في الغرب، كفنان ينتمي إلى ما صار يُعرف في تقاليد الفن العربي الحديث بـ"الحروفية"، وهو الفن الذي يقوم بالتعامل مع الحرف العربي -أو الأبجدية- كمادة أو مفردة.
و"الحروفية" أو الخط العربي في الفن تيارٌ ليس محدودًا في بلد أو إقليم عربي، بل يتوزع في كل أنحاء العالم الإسلامي، ويعتمد على تنويع أشكال الخط ومعاني الكلمات، وذلك في سبيل إضافة أبعاد فنية وجمالية لمفردات اللون، ويُظهر الكلمة أحيانًا وحيدة في فضاء غير نهائي، أو سابحة في بحر من الألوان. ويستخدم الفنانون "الحروفية" لتأكيد ملامح خاصة في أعمالهم، لعل أهمها الهوية. والحقيقة أن تعداد أسماء فنانين يمثلون هذا التيار ليس لازما، لأن الفنانين المعاصرين والمحدثين في العالمين العربي والإسلامي استخدموا الكلمة بطريقة أو بأخرى.
لقد حاول الكثيرون الوقوف مع خواطر "عثمان وقيع الله" ومناقشة آرائه ودراساته في الخط العربي، فاكتشفوا منذ الوهلة الأولى جديته وأصالته وإمكاناته ومقدراته، مستشهدين بما قاله: (في لوحاتي ترى الصدى وتسمع الحرف)، وهو بلا شك وصف بليغ.
بعد ذلك تطورت هذه الحركة الفنية على يد الفنانين "إبراهيم الصلحي" و"أحمد شبرين"، وخرجوا بها معًا إلى النطاق العالمي.
وقد خلقت هذه المدرسة القديمة كل المزايا والقدوة للمحدثين -كما أجمع بعض المحللين الذين أسموها "الحركة الذهنية"- داخل الحضارة العربية المعاصرة، لذلك اعتبُر "عثمان وقيع الله" قائد العودة إلى الخط العربي وقدراته الجمالية الأصيلة، مستغلا ملكاته البحثية الدءوبة في تاريخه.
قال ناقد ذات مرة: إن الخط العربي سيظل من أهم إنجازات العرب في مجال الفنون الجميلة التي قدموها للبشرية منذ قرون.
ويضيف: إن هذه الثروة التي ورثها العرب لم تأخذ حظها من الدراسة. ولم يكن الخط العربي للأهداف الجمالية وحدها، بل علمنا الفنان عثمان "وقيع الله" وآخرون قبله بأنه وسيلة لنقل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال المتداولة.
وزاد الفنان "عثمان" على ذلك بأن ركز على القرآن الكريم الذي قال عنه إنه شغله الشاغل. إن الخط بالنسبة له أساس للزخرفة ذات المعنى. وقد أشاد كثيرون بتجربته وضرورة الاهتمام بها ودراستها.
ورحل في هدوء..
غيَّب الموتُ الفنان التشكيلي السوداني العالمي "عثمان وقيع الله" بعد حياة كرسها للفن والإبداع، وكان آخر أعماله -الذي أوشك على الفراغ منه- بحثا موثقا في تاريخ وجماليات فنون الخط في الكتابات القديمة والمعاصرة، لكن من المؤكد أنه ترك وراءه أعمالا فنية رائعة في الفنون التشكيلية والخط العربي.