"كاردينال" الطرب الشعبي
آيت واعراب محمد إيدير هالو.. من الأصوات الجزائرية الرائعة التي تألقت في سماء الأغنية الشعبية، ومنحتها مكانة خاصة في الجزائر والعالم العربي.. صوت شجيّ، واسم كبير طبع على سجل الطرب الجزائري الأصيل بحروف من ذهب، ولقد لمع في سماء "الشعبي" وأسّس له حتى أنه صار يلقب بـ"الكاردينال"..
" لحمام اللي والفتو"، "يا ولفي مريم"،"قوم يا معشوقي"، "مرسول فاطمة"، "سبحان الله يا لطيف" و"الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا".. وغيرها هي الروائع التي ما زالت تتردد على ألسنة الصغار قبل الكبار، وصنعت أمجاد الشعبي الجزائري..
-لعل اسم "آيت واعراب" لا يحرّك في الذاكرة شيئا، لكن إذا عرفنا أن "آيت واعراب محمد إيدير هالو" هو نفسه الحاج محمد العنقى، فإن الأمر يختلف، لأننا نكون في حضرة مؤسس الأغنية الشعبية بدون منازع..
آيت واعراب.. أو الحاج العنقى.. من مواليد 20 ماي 1908 بالحي العتيق القصبة، وبالضبط في 40 شارع تمبوكتو، ينحدر من عائلة بسيطة تعود جذورها إلى بني جنّاد بولاية تيزي وزو، والده محمد حاج بن السعيد، ووالدته فاطمة بنت بوجمعة .
قبل أن يلتحق الحاج امحمد العنقى بمجال الفن، انتظم بالمدرسة القرآنية في سن الرابعة، وبالضبط سنة ,1912 إذ التحق بمدرسة إبراهيم فاتح بالقصبة ما بين 1914 إلى ,1917 ثم في مدرسة أخرى ببوزريعة حتى عام .1918
ظروف والده المزرية لم تسمح له بمواصلة التعليم، فغادر المدرسة وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ليلتحق بالحياة العملية مجبرا..
ظريف ومعناوي..
لم يكن سن محمد العنقى قد تعدى العاشرة، حين أطلق العنان لصوته، وقدمه الموسيقي سي السعيد العربي لشيخه مصطفى الناظور الذي اشتهر بإدخال الشعر الملحون إلى الجزائر العاصمة، خاصة أعمال الشعراء عبد العزيز مغراوي، سيدي قدور العلامي، محمد نجار وعبد الرحمن المجدوب، ولقد انبهر الناظور في إحدى الحفلات الرمضانية بهدوء الفتى محمد آيت واعراب، وحفظه السريع للنوبات، فضمه إلى فرقته الموسيقية كعازف على آلة الدفّ، وهو في هذه السن المبكرة، فزاد انبهار شيخه به، وفسح له كي يحضر حفلات كثيرة إلى جانبه، وأطلق عليه لقب "العنقاء"، وهو ما جذب انتباه كثير من الفنانين أمثال الشيخ كهيودج، الأخ غير الشقيق للحاج مريزق، فسجله في فرقة "المراسيم"..
وفي سنة 6291، كانت بداية الانطلاقة الحقيقية لـ امحمد العنقى إلى عالم الطرب الأصيل، فهي السنة التي توفيّ فيها شيخه مصطفى الناظور، ليتسلم "العنقى" قيادة الفرقة الموسيقية المتكونة من سي السعيد العربي، المعروف بـ"بيرو"، وعمر بيبو، اسمه سليمان علان، إلى جانب مصطفى وليد المدّاح.
وكان العنقى قليل الكلام، وإذا تكلم، تكلم بالمعاني، فلم يكن يعرف صيغة المباشرة حتى في الكلام العادي، وهذا لتأثره بالقصائد الشعبية..
شيخ في عزّ الشباب..
منذ ذلك التاريخ، اجتهد امحمد العنقى في بناء مجد الأغنية الشعبية الجزائرية، حتى تمكن من الحصول على لقب "شيخ" وهو في ريعان الشباب، فقد التحق بمعهد سيدي عبد الرحمن للموسيقى، وقضى به خمس سنوات, وفي هذه الفترة، افتتحت دار الإذاعة، واستدعي رفقة العديد من فناني تلك الفترة كالشيخة يمينة بنت الحاج المهدي، والحاج العربي بن صاري، لتسجيل عشرات الأسطوانات التي عرفت نجاحا كبيرا في ذلك الوقت، فقد كانت سنة 1927 تاريخا حافلا في حياة العنقى، وتمكن، في ظرف سنة واحدة، من تسجيل 27 أسطوانة من صنف 78 دورة عن "دار كولومبيا" التي كانت أول مستثمر في مجال الفن بالجزائر، وصاحبة أول قناة إذاعية "PTT " افتتحها العنقى، ومنها ذاع صيته، إلى أنحاء المغرب العربي..
كانت أغلب تسجيلات العنقى عبارة عن مدائح دينية، وقد اعتنق هذا الطابع بعد اعتزال الشيخ عبد الرحمن سعيدي لطابع المديح، في أوت ,1931 كما كان يؤدي "القوال" أمام أصدقائه المقربين أو في الحفلات بعد ذهاب المدعوين، وهي قصائد من تأليفه.
أدى امحمد العنقى زيارة إلى البقاع المقدسة سنة ,1937 على متن الباخرة "المندوزا"، وألف بهذه المناسبة قصيدة "الحجة"، التي سجلها في باريس في 23 ديسمبر من نفس السنة.
وبعد عود الحاج من البقاع المقدسة، أعاد تنظيم حفلاته التي جابت أرجاء الوطن والدول المجاورة وفرنسا، مع فرقته التي أصبحت تضم أسماء معروفة بينها الحاج عبد الرحمن قشود، قدور الشرشالي واسمه عبد القادر بوهراوة المتوفى سنة ,1968 إلى جانب شعبان شاوش صاحب الدربوكة، وكان الفضل للحاج امحمد العنقى في إدخال آلة الدربوكة إلى الفرق الموسيقية الجزائرية عام 1962 بصفة رسمية، رشيد رابحي عازفا على آلة الطار، خلفا للحاج منوّر الذي أنشأ فرقته الخاصة.
الحاج يقود الجوق الموسيقي
وأصبح الحاج العنقى من أكبر الملحنين الجزائريين، كما أشرف على جوق موسيقي بأكمله، ودعي لإدارة أول وأكبر دفعة تكوين في الموسيقى الشعبية بإذاعة الجزائر، إلى أن تم تعيينه كأستاذ مختصّ في تلقين دروس الموسيقى الشعبية في الكونسرفتوار البلدي للجزائر العاصمة عام ,1955 ليتكون على يديه عمالقة الطرب الشعبي، ومنهم عمار العشاب، حسان السعيد، رشيد شوكي..
رصيد فني ثري
وبالموازاة مع تدريس الموسيقى، ظل الكاردينال مواظبا على الكتابة والتلحين، وأداء بعض القصائد التي يحفظها عن ظهر قلب، ولقد تمكن من إدخال تجديدات في الخانات والانسجام والتناغم "الطبوع"، وفي الحوزي بصفة عامة، وكتب كلمات أكثر من 350 أغنية، وسجل ما يقارب 130 أسطوانة، بعد أن تعامل مع شركة "ألجيريا فون"، وسجل لحسابها العشرات من الأسطوانات، وكان ذلك عام ,1932 إضافة إلى عشرات الأسطوانات مع شركة "بوليفون".
وبعد رحلة فنية دامت أكثر من نصف قرن، قرر "أبو الشعبي" كما أطلق عليه أن ينظم آخر حفلتين له، الأولى بمناسبة زواج البنت الصغرى لشيخه مصطفى الناظور، وكان ذلك عام 1976 بمدينة شرشال، والثانية بمدينة الأبيار سنة .1977
نبغ على يدي الحاج امحمد العنقى كثير من الفنانين الجزائريين مثل الحاج الهاشمي ?روابي، بوجمعة العنقيس، بورحلة محمد، وغيرهم..
إلى رحاب رحمة الله
رحل آيت عراب محمد إيدير هالو ذات 23 نوفمبر من سنة 1978 بالجزائر العاصمة، ودُفن بمقبرة القطار، ومن غريب الطرائف حول اسمه "هالو" أنه يوم ولادته وعند تسجيله في الحالة المدنية، صادف وأن كان خاله مع والده أثناء التسجيل، وعندما سأله الموظف الفرنسي عن هويته، قال له باللغة العربية "أنا خالو" أي خاله، فكتبها الموظف "HALO " وأضافها إلى الاسم، وهذا سرّ وجودها في الاسم الكامل للعنقى، فأصبح اسمه هالو محمد إيدير في الأوراق الرسمية، هذا وقد ترك الحاج وراءه إرثا فنيا كبيرا